كتاب مجالس شهر رمضان للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله الجزء الثالث



المجلس الحادى عشر
آداب الصيام المستحبة

الحمدُ لله مُبلِّغِ الراجِي فوقَ مأمُولِه ومُعْطِي السائلِ زيادةً على مسؤولِه أحمدُه على نيلِ الهُدَى وحصولِه وأقِرُّ بوحدانيَّتِهِ إقرارَ عارفٍ بالدَّلِيل وأصُوله وأصلِّي وأسَلِّم على نبينا محمدٍ عبدِه ورسولِه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الملازم له في ترحالِهِ وحُلُولِه وعلى عُمَر حامِي الإِسْلامِ بعزْمٍ لا يُخَافُ من فُلولِه وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاء حين نزولِه وعلى عليٍّ بن أبي طالبٍ الذي أرهبَ الأعداءَ بشجاعتِهِ قبل نُضُولِه وعلى جميع آلِه وأصْحابه الذين حازُوا قصَبَ السَّبْق في فروعِ الدينِ وأصُولِه ما تَرَدَّد النسيمُ بين جَنوبِه وشمَالِهِ وغرْبِهِ وقُبولِه

إخواني : هذا المجلسُ في بيانِ القسمِ الثانِي من آداب الصومِ وهي الآدابُ المُسْتحبَّةُ فمنها :

السُّحُورُ وهو الأكلُ في آخِرِ الليل سُمِّي بذلكَ لأنَّه يقعُ في السَّحَرِ فقد أمَرَ النبيُّ صل الله عليه وسلّم به فقال :
«تَسحَّروا فإن في السحورِ بركةً» متفق عليه
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبي 
صل الله عليه وسلّم قال :
«فَصْلُ ما بَيْنَ صيامِنَا وصيامِ أهلِ الكتاِب أكْلةُ السَّحَر»
وأثْنَى 
صل الله عليه وسلّم على سَحُورِ التَّمرِ فقال :
«نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ» رواه أبو داود [إسناده حسن وله شواهد يصل بها إلى درجة الصحة]
وقال 
صل الله عليه وسلّم :
«السُّحُور كله بركةٌ فلا تَدَعُوْه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماءٍ فإن الله وملائكتَه يُصلُّون على المُتسَحِّرِين» رواه أحمد وقال المنذريُّ : إسنادُه قويٌّ [الجملة الأولى منه لها شاهد في الصحيحين]

وَيَنْبَغِي للمتسحر أنْ ينْويَ بِسُحُوره امتثالَ أمر النبي 
صل الله عليه وسلّم والاقْتداءَ بفعلِهِ ليكونَ سُحُورُه عبادةً وأنْ ينويَ به التَّقَوِّيَ على الصيام ليكونَ له به أجرٌ والسُّنَّةُ تأخيرُ السُّحورِ ما لَمْ يخْشَ طلوعَ الْفَجْرِ لأنَّه فعلُ النبيِّ صل الله عليه وسلّم فعن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن نبيَّ الله صل الله عليه وسلّم وزَيْدَ بن ثابتٍ تسحَّرَا فلَّما فرغا من سُحُورهما قام نبيُّ الله صل الله عليه وسلّم إلى الصلاةِ فصلَّى قُلنا لأنس : كمْ كان بين فراغِهما من سُحُورهما ودخولهما في الصلاةِ؟ قال : قَدْرُ ما يقْرأ الرجلُ خَمسين آيةً رواه البخاري
وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ بلاَلاً كان يؤذِّنُ بلَيْل فقال النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم :
«كُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّنَ ابن أمِّ مكتومٍ فإنَّه لا يؤذنُ حتى يطلُعَ الفجْرَ» رواه البخاري
وتأخيرُ السُّحور أرفْقُ بالصائِم وأسْلَمُ من النومِ عن صلاةِ الفجرِ
وللصائم أن يأكلَ ويشربَ ولو بَعْد السُّحورِ ونيَّةِ الصيام حتى يَتيقَّنَ طلوعَ الفجر لقوله تعالى :
{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة: 183]
ويحكم بطلوعِ الفجرِ إما بمشاهَدَتِهِ في الأُفقِ أو بخَبَرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه فإذا طلع الفجرُ أمْسَكَ وينوي بقلبِه ولا يَتلفَّظ بالنيةِ لأنَّ التلفظ بها بدعةٌ

ومن آداب الصيام المستحبةِ تعجيلُ الفُطور إذا تحقق غروبُ الشَّمْسِ بمُشَاهدتِها أو غَلَب على ظنِّه الغروبُ بِخبرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه فعن سَهْلِ بنِ سعد رضي الله عنه أن النبي 
صل الله عليه وسلّم قال :
«لا يَزالُ الناسُ بخيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ» متفق عليه
وقال صل الله عليه وسلّم فيما يرْويهِ عن ربِّه عزَّ وجلَّ :
«إن أحبَ عبادي إليَّ أعجلُهم فطراً» رواه أحمد والترمذي [إسناده ضعيف وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب]
والسنَّة أنْ يفطِرَ على رُطَبٍ فإن عُدِم فتمْر فإنْ عُدِم فَمَاء لقول أنسٍ رضي الله عنه :
«كان النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم يُفطِرُ قبلَ أن يُصَلِّيَ على رُطباتٍ فإنْ لَمْ تكنْ رطبات فَتَمَرَات فإن لم تكن تمرات حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي [إسناده حسن جداً]
فإن لم يجد رُطباً ولا تمراً ولا ماءً أفْطَر على ما تَيسَّر من طعام أو شرابٍ حلال فإنْ لم يجد شَيْئاً نَوى الإِفطار بقلبِه ولا يمص إصْبَعَه أو يجمع ريقَه ويَبلعه كما يفعلُ بعضُ العَوَامِّ

وينبغي أن يدعُوَ عندفِطرِه بما أحَبَّ ففي سنن ابن ماجة عن النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم أنَّه قال :
«إنَّ للصائِمِ عند فطْرِه دعوةً ما تُرَدُّ» قال في الزوائد : إسنادُه صحيح [ضعفه بعضهم وسبب اختلافهم في صحته اختلافهم في تعيين أحد رواته لكن له شواهد في إجابة دعوة الصائم مطلقاً فالحديث بذلك حسن] وروى أبو داودَ عن معاذَ بنِ زهْرَةَ مرسَلاً مرفوعاً : كان إذا أفطر يقولُ : اللَّهُمَّ لك صُمْت وعلى رزقك أفَطَرَتُ [معاذ بن زهرة تابعي وثقه ابن حبان فالحديث ضعيف لإرساله لكن له شاهد ربما يقوى به]
وله من حديث ابنِ عمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم كان إذا أفْطَر يقولُ : «ذَهَبَ الظَّمأُ وابْتَلَّتِ العروُقُ وثَبتَ الأجْرُ إنْ شاءَ الله» [إسناده حسن]

ومن آدابِ الصيامِ المستحبةِ كثرةُ القراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصلاةِ والصدقة وفي صحيح ابن خزيمة و ابن حبَّان أن النبي 
صل الله عليه وسلّم قال :
«ثلاثة لا ترد دعوتُهم : الصائمُ حتى يُفْطِر والإِمامُ العادلُ ودعوةُ المظلومِ يرْفَعُها الله فوقَ الغمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السماء ويقولُ الرَّبُّ : وعِزَّتِي وجَلالِي لأنصُرنَّكِ ولو بَعدَ حينٍ» ورواه أحمد والترمذي [فيه ضعف ولبعضه شواهد]
وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال : كان رسولُ الله 
صل الله عليه وسلّم أجْوَد الناسِ وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فَلَرَسُولَ الله صل الله عليه وسلّم حينَ يَلقاهُ جبريلُ أجْوَدُ بالْخيرِ من الريحِ المُرسلةِ وكان جُوْدُه صل الله عليه وسلّم يَجْمعُ أنْواعَ الجُودِ كُلَّها من بذْلِ الْعِلْمِ والنَّفْسِ والمالِ لله عزَّ وجلَّ في إظهارِ دينِه وهداية عبادِه وإيْصالِ النَّفْعِ إليهم بكَلِّ طريقٍ من تعْليم جاهِلِهِم وقضاءِ حوائِجِهم وإطعام جائِعهم وكان جودُه يتضاعَفُ في رمضان لِشَرَفِ وَقتِهِ ومضاعَفَةِ أجْرِهِ وإعانَةِ العابدين فيه على عبادتهم والجمع بين الصيام وإطعامِ الطعام وهما مِنْ أسْبابِ دخولِ الجنَّةِ
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبي 
صل الله عليه وسلّم قالَ :
«مَنْ أصبح منْكُمْ اليومَ صائماً؟ فقال أبو بكر : أنا
قال : فمَنْ تبعَ منكم اليومَ جِنازةً؟ قال أبو بكر : أنا
قال : فمَنْ أطعم منكم اليومَ مسكيناً؟ قال أبو بكر : أنا
قال : فمَنْ عادَ منكم اليومَ مريضاً؟ قال أبو بكر : أنا
قال النبي صل الله عليه وسلّم : مَا اجتمعْنَ في امرأ إلاَّ دَخَلَ الجنَّةَ»

ومن آداب الصيام المستحبةِ أنْ يَسْتحضِرَ الصائمُ قدْرَ نعْمة الله عليه بالصيام حيثُ وفَّقَه له ويَسَّره عليه حتى أتمَّ يومَه وأكْملَ شَهْره فإنَّ كثيراً من الناسِ حُرمُوا الصيامَ إمَّا بموتِهِم قبل بلوغِهِ أو بعجْزهم عنه أو بضلالهم وإعْرَاضِهِم عن القيام به فَلْيَحْمدِ الصائمُ ربَّه على نعمةِ الصيامِ التي هي سببٌ لمغفرةِ الذنوب وتَكْفير السيئاتِ ورفْعةِ الدرجاتِ في دارِ النعيم بجوارِ الربِّ الكريم

إخواني : تأدبُوا بآداب الصيام وتَخلَّوا عن أسْباب الغضب والانتقام وتَحلوا بأوْصاف السَلَف الكرام فإنَّه لن يُصْلِحَ آخر هذِه الأمة إلاَّ ما أصلَحَ أوَّلها منَ الطاعَة واجتنابِ الآثام
قال ابن رجبٍ رحمه الله : الصائمون على طَبقَتَين : إحدَاهما : من ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه لله تعالى يرجو عنده عِوَضَ ذَلِكَ في الجنَّة فهذا قد تاجَرَ مع الله وعَامله والله لا يضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عملاً ولا يخيبُ معه من عامله بل يربحُ أعظمَ الربح قال رسول الله 
صل الله عليه وسلّم لرجل : «إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا آتاك الله خيراً منه» أخرجه الإِمام أحمد [صحيح]
فهذا الصائم يُعطى في الجنةِ ما شاء من طعام وشرابٍ ونساءٍ قال الله تعالى :
{كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24]
قال مُجاهدٌ وغيرُه : نَزَلتْ في الصائمين وفي حديثِ عبدالرحمَن بنِ سَمُرةَ الَّذي رآه النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم في منامِه قال :
«ورَأيتُ رجلاً من أمَّتِي يلْهثُ عَطَشاً كُلَّمَا دنا من حَوضٍ مُنِعَ وطُرِدَ فجاءه صيامُ رمضان فسقاهُ وأرواه» خرجه الطبراني [ضعيف الإسناد لكن قال ابن القيم بعد أن ساقه بتمامه في المسألة العاشرة من كتاب (الروح) سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يعظم أمر هذا الحديث وقال –يعني شيخ الإسلام- أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث]
يا قوم ألا خاطبٌ في هذا الشهرِ إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدَّ الله للطائِعين في الْجنَان؟

مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ فلْيَدعْ عنه التواني
ولْيَقْم في ظُلمةِ الليلِ إلى نورِ القُرآنِ
ولْيَصِلْ صوماًبصومٍ إن هذا العَيشَ فَانِ
إنَّما العيشُ جِوارُ الله في دارِ الأمانِ


الطَّبَقَةُ الثانيةُ مِنَ الصائِمين : منْ يصومُ في الدنيا عما سِوى الله فَيَحْفَظُ الرأسَ وما حَوى والْبطْنَ وما وَعَى ويَذْكُر الموتَ والْبِلى ويريد الآخِرةَ فَيتركُ زينةَ الدنيا فهذا عيدُ فِطرهِ يوم لقاءِ ربِّه وَفَرَحته برُؤْيتِهِ

من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه :
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت: 5]

يا مَعْشَر التائبين صومُوا اليومَ عن شهواتِ الْهَوى لِتُدْرِكوا عيدَ الفطرِ يوم اللِّقاء

اللَّهُمَّ جَمِّل بواطِنَنَا بالإِخلاصِ لك وحَسِّنْ أعمالَنا باتِّباع رسولِكَ والتأدُّب بآدابه اللَّهُمَّ أيْقِظْنا من الغَفَلات ونجِّنا من الدَّركات وكفِّر عنَّا الذنوبَ والسَيِّئات واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين الأحياءِ منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين وصلَّ الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ



المجلس الثانى عشر
النوع الثاني من تلاوة القرآن

الحمدُ لله معطي الجزيلَ لمنْ أطاعه ورَجَاه وشديد العقاب لمن أعرضَ عن ذكره وعصاه اجْتَبَى من شاء بفضلِهِ فقرَّبَه وأدْناه وأبْعَدَ مَنْ شاء بعَدْلِه فولاَّه ما تَولاَّه أنْزَل القرآنَ رحمةً للعالمين ومَنَاراً للسالِكين فمنْ تمسَّك به نال منَاه ومنْ تعدّى حدوده وأضاع حقُوقَه خسِر دينَه ودنياه أحْمدُه على ما تفضَّل به من الإِحسانِ وأعطاه وأشْكره على نِعمهِ الدينيةِ والدنيويةِ وما أجْدَرَ الشاكرَ بالمزيدِ وأوْلاه وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له الكاملُ في صفاتِهِ المتعالي عن النُّظَراءِ والأشْباه وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي اختاره على البشر واصْطفاه صلَّ الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما انْشقَّ الصبحُ وأشْرقَ ضِياه وسلَّم تسليماً

إخواني : سبق في المَجْلِس الخامسِ أنَّ تِلاوةَ القرآنِ على نوعين تلاوةِ لفظِهِ وهي قراءته وتقدَّم الكلامُ عليها هُناكَ

والنوعُ الثاني تلاوةُ حُكمِه بتصديقِ أخبارِهِ واتَّباعِ أحكامِهِ فعْلاً للمأموراتِ وتركاً للْمنهِيَّات

وهذا النَّوعُ هو الغايةُ الْكُبرَى من إنزال القرآن كما قال تعالى :
{كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَـابِ } [ص: 29]
ولهذا دَرَجَ السلف الصالحُ رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن ويصدِّقون بِهِ ويُطبقون أحْكامَه تطبيقاً إيْجابيَّاً عن عقيدةٍ راسخةٍ ويقين صادق قال أبو عبدالرحمنِ السُّلميُّ رحمه الله : حدَّثَنا الذين كانوا يُقرِؤوننا القرآن عثمان بنُ عفانَ وعبدُالله بنُ مسعودٍ وغيرهما أنَّهم كانَوا إذا تعلَّمُوا منَ النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم عَشرَ آياتٍ لم يتجاوزوها حتى يتعلَّموها وما فِيها من الْعلْم والْعَمَل قالوا : فَتعلَّمنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعاً وهذا النوعُ من التلاوة هو الَّذِي عليه مَدار السعادةِ والشقاوةِ قال الله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه: 123- 127]

فَبيَّن الله في هذه الآيات الكريمةِ ثوابَ المتَّبِعينَ لِهُدَاه الَّذِي أوْحاه إلى رسُلِهِ وأَعْظَمُه هذا القرآنُ العظيمُ وبيَّنَ عقابَ المُعْرضين عنه أمَّا ثوابُ المتَّبعين له فلا يَضلِّونَ ولا يَشقَونَ ونفْيُ الضلالِ والشقاءِ عنهم يتضمَّن كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة فإنَّ له معيشةً ضنْكاً فهو في دُنياه في هَمٍّ وقَلقِ نَفْس ليس له عقيدةٌ صحيحةٌ ولا عملٌ صالحٌ :
{أُوْلائِكَ كَالأَنْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179]
وهُو في قبرِه في ضيْقٍ وضَنكٍ قد ضُيِّق عليه قبرُه حتى تختلف أضْلاعُه وهُو في حَشْره أعْمَى لا يُبصرُ
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإِسراء: 97]
فَهمْ لمَّا عَمُوا في الدُّنيا عن رُؤْيَةِ الحقِّ وصَمُّوا عن سَماعِه وأمْسكُوا عن النطق به
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ } [فصلت: 5]
جازَاهُمُ الله في الآخرةِ بمثلِ ما كانوا عليه في الدُّنيا وأضَاعهم كما أضَاعوا شَريعتَه
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه: 125، 126]
{جَزَآءً وِفَـاقاً } [النبأ: 26]
{وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [القصص: 84]


وفي صحيح البخاريِّ : عن سَمُرةَ بن جنْدُب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صل الله عليه وسلّم كان إذا صلَّى صلاةً وفي لفظٍ : صلاةَ الْغَداةِ أقْبلَ علينا بوَجْههِ فقال :
«مَنْ رأى منكم الليلةَ رُؤْيا؟ قال : فإنْ رأى أحدٌ قَصَّها فيقولُ : ما شاء الله فسألنا يوماً فقال : هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا : لا قال : لَكنِّي رأيْتُ الليلةَ رجُلين أتَيانِي (فساق الحديث وفيه) فانْطلقْنَا حتى أتيْنَا على مضْطَجِعٍ وإذا آخَرُ قائمٌ عليه بصَخْرةٍ وإذا هُوَ يَهْوي بالصَّخْرَةِ لِرَأْسِه فَيثْلغ رأسَه فَيَتدهْدَهُ الْحجرُ ههنا فَيتْبعُ الحجرَ فيأخذه فلا يَرجعُ إلى الرَّجُلِ حتى يصِحَّ رأسُه كَمَا كان ثم يعودُ عليه فيفعلُ به مثل ما فعل به المرَّة الأولى فقلتُ : سبحانَ الله! ما هذا؟ فقالاَ لي انْطلِق (فذكر الحديث وفيه) أمَّا الرجلُ الذي أتيت عليه يُثْلَغُ رأسُه بالحجرِ فهو الرجلُ يأخُذُ القرآنَ فَيَرْفُضُهُ وينامُ عن الصلاةِ المكتوبةِ»
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم خطبَ الناسَ في حجَّةِ الوَداع فقال :
«إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعْبَدَ في أرضِكُم ولكنْ رَضِيَ أن يُطاع فيما سوى ذلك ممَّا تَحاقرُون من أعمالكم فاحذروا إني تَركتُ فيكم ما إن تَمسَّكْتُم به فَلَنْ تضلوا أبداً كتابَ الله وسُنةَ نبيِّه» رواه الحاكم وقال : صحيح الإِسناد [روى الإمام أحمد نحو الجملة الأولى منه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]
وعن عَمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال : قال رسول الله 
صل الله عليه وسلّم :
«يُمثَّل القرآنُ يوم القيامةِ رجلاً فيُؤْتى بالرجلِ قد حَملهُ فخالفَ أمْرَه فيُمثَّلُ له خَصْماً فيقولُ : يا ربِّ حمَّلْته إيَّاي فبئسَ الحاملُ تَعدَّى حُدودي وضيَّع فرائِضِي وركب مَعْصِيتَي وترَكَ طَاعتِي فما يَزَالَ يُقذِف عليه بالحُجَجِ حتى يقالَ : شأنَكَ بِهِ فيأخُذُه بيده فما يُرْسلُه حتى يُكِبَّه على مِنْخَره في النار» [ضعيف ونقل عن الحافظ ابن حجر تحسينه فإن ثبت أنه حسن فالممثل قراءة القارئ أو جزاؤها وهما مخلوقان أو يقال إن التمثيل يقتضي أن الممثل به به غير الممثل فلا يستلزم أن يخلق القرآن]
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي 
صل الله عليه وسلّم قال :
«القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك»
وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه : القرآنُ شافعٌ مُشفَّعٌ فمَن جَعلَه أمَامَهُ قادهُ إلى الجنةِ ومن جعله خلفَ ظهرهِ ساقَه إلى النار [وقد روى عنه مرفوعاً إلى النبي 
صل الله عليه وسلّم]

فيَا مَنْ كان القرآنُ خَصْمَه كيفَ ترجو مِمَّنْ جعلْتَه خصْمَكَ الشفاعَةَ؟ ويْلٌ لمن شفعاؤه خُصماؤه يومَ تربحُ البضَاعة

عبادَ الله : هذا كتابُ الله يُتْلى بَيْن أيْديكم ويُسْمَع وهو القرآنُ الَّذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لَرأيْتَه خاشِعاً يَتَصَدَّع ومع هذا فلا أُذُنٌ تسمع ولا عينٌ تدْمع ولا قلبٌ يخشع ولا امتثالٌ للقرآنِ فيُرجَى به أنْ يَشْفع قلوبٌ خَلتْ من التَّقْوى فهي خَرَابٌ بَلْقَع وتَرَاكمتْ عليها ظُلْمةُ الذنوب فهي لا تُبْصِرُ ولا تَسْمع كم تُتْلى علينا آيَاتُ القرآنِ وقُلوبُنا كالحجارةِ أو أشد قَسْوة وكم يتوالى علينا شهرُ رمضانَ وحالُنا فيه كحالِ أهلِ الشَّقْوة لا الشَّابُّ منا يَنِتَهي عن الصَّبوة ولا الشيخُ ينْتَهي عن القبيح فيَلْحقُ بأهلِ الصَّفوَة أينَ نحنَ من قوم إذا سمِعُوا داعيَ الله أجابُوا الدَّعْوة وإذا تُليتَ عليهم آياتُه وَجلَتْ قُلوبُهم وجَلتْهَا جَلْوَة أولئك قومٌ أنْعَمَ الله علَيْهم فعرفُوا حقَّه فاختارُوا الصَّفوة
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : ينبغي لقارئ القرآنِ أنْ يُعْرفَ بليلهِ إذا النَّاسُ يَنامُون وبنَهَارِهِ إذا الناسُ يُفطِرُون وببُكائِه إذا الناسُ يَضْحَكون وبوَرَعِهِ إذا الناسُ يخلطون وبِصَمْتِهِ إذا الناسُ يَخُوضون وبِخشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالُون وبحْزْنِهِ إذا الناسُ يَفْرحون

يا نفْسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى وأبصَروا الحقَّ وقلبي قد عَمِىِ
يا حُسْنَهم والليلُ قد أجَنَّهُمْ ونورُهم يفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرَنَّموا بالذِّكْر في لَيْلِهُمُو فَعَيْشُهم قَدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهُمْ للذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغتْ دمُوعُهم كلُؤْلُؤٍ منْتَظِمِ
أسْحارُهُمْ بنورِهِمِ قَدْ أشْرَقَتْ وخِلعُ الغفرانِ خَيْرُ القِسَمِ
قَدْ حَفِظوا صيامَهُم من لَغْوهِم وخَشَعُوا في الليلِ في ذِكْرِهِمِ
ويْحَكِ يا نفسُ أَلاَ تَيَقَّظِي للنَّفْعِ قبلَ أنْ تَزِلَّ قَدمِي
مضى الزَّمانُ في تَوَانٍ وَهَوى فاسْتَدْرِكِي ما قَدْ بَقِي واغْتَنِمِي


إخواني : احفَظُوا القرآنَ قبلَ فواتِ الإِمكان وحافِظُوا على حدودِهِ من التَّفْرِيطِ والعِصْيان واعْلَمُوا أنَّه شاهدٌ لكم أوْ عليكم عند المَلِكِ الدَّيَّان ليس مَنْ شُكْر نعمةِ الله بإِنْزَالِهِ أنْ نَتَّخِذَه وراءَنا ظِهْريَّاً وليس مِنْ تعظيمِ حرمات الله أنْ تتخذَ أحكامَه سِخْرياً
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّـالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * ياوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِلإِنْسَـانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَـذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [الفرقان: 27- 31]

اللَّهُمَّ ارزقْنا تِلاوةَ كتابِكَ حقَّ التِّلاوة واجْعَلنا مِمَّنْ نال به الفلاحَ والسَّعادة اللَّهُمَّ ارزُقْنا إقَامَةَ لَفْظهِ ومَعْنَاه وحِفْظَ حدودِه ورِعايَة حُرمتِهِ اللَّهُمَّ اجْعلنا من الراسخين في الْعلم المؤمنين بمُحْكَمِهِ ومتشابههِ تصديقاً بأخْبَاره وتنفيذاً لأحْكامه واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِيْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحَمَ الرَّاحمين وصلَّ الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وَعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجْمعين


المجلس الثالث عشر
آداب قراءة القرآن

الحمدُ لله الَّذِي لشرعه يَخْضَعُ مَنْ يعْبُد ولِعَظَمتِه يخشعُ مَنْ يَرْكع ويسجُد ولِطِيْب مناجاتِه يسهرُ المتَهْجِّدُ ولا يرْقُد ولِطَلبِ ثوابِه يَبْذِلُ المُجَاهدُ نَفْسَه ويَجْهد يتَكَلَّمُ سبحانَه بكلامٍ يجِلُّ أنْ يُشَابِه كَلاَمَ المخلوقين ويَبْعد ومِنْ كلامِهِ كتابُه المُنَزَّلُ على نبيِّهِ أحمد نقرؤه ليلاً ونهاراً ونُرَدِّد فلا يَخْلَقُ عن كثرةِ التَّردَادِ ولا يَمُلَّ ولا يُفَنَّد أحمده حَمْدَ مَنْ يَرْجُو الوقوفَ على بابِه غيرَ مُشَرَّد وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له شهادةَ مَنْ أخلصَ لله وتَعَبَّد وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذي قام بواجب العبادِة وتَزَوَّدْ صلَّ الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الصديق الَّذِي ملأ قلَوب مُبْغِضيْهِ قَرحَاتٍ تُنْفِد وعلي عُمَرَ الَّذِي لم يَزْل يُقَوِّي الإِسلامَ ويَعْضُد وعلى عثمان الَّذِي جاءَتْه الشهادةُ فلم يترَدَّدْ وعلى عليٍّ الَّذِي ينْسفُ زرْعَ الكُفرِ بسيفِه ويَحْصُد وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابِه صلاة مُسْتَمرَّة على الزمانِ الْمُؤبَّد وسلَّم تسليماً

إخواني : إنَّ هذا القرآنَ الَّذِي بَيْنَ أيْدِيكم تتْلُونه وتسمعونَه وتحفَظُونه وتكتُبونَه هو كلامُ ربِّكُمْ ربِّ الْعَالِمِين وإِله الأوَّلِين والآخِرِين وهو حبْلُه المتينُ وصراطُهُ المستقيم وهو الذِّكْرُ المبارَكُ والنورُ المبين تَكلَّمَ الله به حقيقةً على الوصفِ الَّذِي يَلِيْقُ بجلالِهِ وعظَمتِه وألْقَاه على جبريل الأمينِ أحَدِ الملائكةِ الكرام المقَرَّبين فنزلَ به على قلبِ محمدٍ 
صل الله عليه وسلّم ليكون من المُنْذرِين بلسانٍ عربيٍّ مبينِ وَصَفَهُ الله بأوصافٍ عظيمةٍ لِتُعظِّمُوه وتحترمُوه فقال تعالى :


{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة: 185]
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَـاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عمران: 58]
{يَـأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174]
{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } [المائدة: 15، 16]
{وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ } [يونس: 37]
{يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57]
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ } [الحجر: 87، 88]
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 15]
{إِنَّ هَـذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِي أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الإِسراء: 9، 10]
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّـالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [الإِسراء: 82]
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإِسراء: 88]
{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسَّمَاوَتِ الْعُلَى } [طه: 2 4]
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1]
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الاَْوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَءِيلَ } [الشعراء: 192- 197]
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَـاطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [الشعراء: 210، 211] {بَلْ هُوَ آيَـاتٌ بَيِّنَـاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49]
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [يس: 69، 70] {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ص: 29]
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ص: 67]
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـاباً مُّتَشَـابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 41، 42]
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلاَ الإِيمَـانُ وَلَـكِن جَعَلْنَـاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52]
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4]
{هَـذَا بَصَـائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 20]
{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } [ق: 1]
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الواقعة: 75 80]
{لَوْ أَنزَلْنَا هَـذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]

وقال تعالى عن الجن : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } [الجن: 1، 2]
وقال تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21، 22]
فهذه الأوصافُ العظيمةُ الكثيرةُ التي نقَلْناها وغيرُها مِمَّا لم نَنْقُله تدُل كلُّها على عَظَمةِ هذا القرآنِ ووجوبِ تعظيمِه والتَّأدُّبِ عند تلاوتِه والبعدِ حال قراءتِه عن الهُزءِ واللَّعِب

فمِنْ آداب التِّلاوَةِ :
إخْلاصُ النيِّةِ لله تعالى فيها لأنَّ تِلاَوَةَ القرآنِ من العباداتِ الجَليلةِ كما سبقَ بَيَانُ فضلها وقد قال الله تعالى
{فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر: 14]
وقال : {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ } [الزمر: 2]
وقال تعالى : {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ }
وقال النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم :
«اقْرَؤُوا القرآنَ وابْتغُوا به وجهَ الله عزَّ وجلَّ مِن قبلِ أن يأتيَ قومٌ يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» رواه أحمد [إسناده حسن]
ومعنى يتعجَّلونه يَطْلبون به أجْرَ الدُّنيا

ومِنْ آدَابِها :
أنْ يقرأ بقلْبٍ حاضرٍ يتدبَّرُ ما يقْرَأ ويتفهَّمُ معانِيَهُ ويَخْشعُ عند ذلك قَلْبُه ويَسْتحضر بأنَّ الله يخاطِبُه فيه هذا القرآن لأنَّ القُرْآنَ كلامُ الله عزَّ وجَلَّ

ومِنْ آدَابِها :
أنْ يَقْرَأ على طهارةٍ لأن هذا من تعظيم كلامِ الله عزَّ وجل ولا يَقْرأ الْقُرآنَ وهو جُنُبٌ حَتَّى يَغْتَسِلَ إِنْ قدِر على الماءِ أو يَتيمَّم إنْ كان عاجزاً عن استعمال الماء لمرضٍ أوْ عَدَم ولِلْجُنُبِ أن يذْكُرَ الله ويَدْعُوَهُ بِما يُوَافقُ الْقُرْآنَ إذا لم يقصدِ القرآنَ
مِثْلُ أن يقولَ : لا إِله إِلاَّ أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين
أوْ يقولَ : ربنا لا تُزغْ قُلوبَنا بعد إذْ هَدَيتْنَا وهَبْ لَنَا من لَدُنْكَ رحمةً إنك أنتَ الوَهَّاب

ومنْ آدَابِها :
أنْ لا يقرأ القرآنَ في الأماكِنِ المسْتَقْذَرة أو في مجمعٍ لا يُنْصَتُ فيه لقراءتِه لأن قراءَتَه في مثل ذلكَ إهانةٌ له ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بْيتِ الخلاءِ ونحوه مما أُعِدَّ للتَّبَوُّلِ أو التَّغَوُّطِ لأنه لا يَلِيْقُ بالقرآنِ الكريمِ

ومِنْ آدابِها :
أن يستعيذَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ عندَ إرادةِ القراءة لقوله تعالى :
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ } [النحل: 98]
ولئلاَّ يَصُدَّه الشيطانُ عن القراءةِ أوْ كمالِها وأمَّا الْبَسْمَلةُ فإنْ كان ابتداءُ قِرَاءتِه منْ أثْنَاءِ السُّوْرَةِ فلا يُبَسْمِلُ وإنْ كانَ من أوَّلِ السورةِ فَلْيُبَسْمِلْ إلا في سورةِ التَّوْبةِ فإنَّه ليس في أوَّلها بَسْملةٌ لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أشْكَلَ عليهم حينَ كتابةِ المِصْحفِ هل هي سورةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أو بقيَّةُ الأنْفال ففَصَلُوا بينهما بدونِ بَسْمَلةٍ وهذا الاجتهاد هو المطابق للواقع بلا رَيْبٍ إذْ لو كانت البَسْمَلة قد نزلت في أولها لَبَقِيَتْ محفوظة بحفظ الله عزَّ وجل لقوله تعالى :
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [الحجر: 9]

ومِن آدَابِها :
أن يُحَسَّنَ صوتَه بالقُرآنِ ويترَّنَّمَ به لمَا في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي 
صل الله عليه وسلّم قال :
«ما أذِنَ الله لِشَيْء (أي ما اسْتَمَع لشيءٍ) كما أذِنَ لنَبِيٍّ حَسنِ الصوتِ يَتغنَّى بالقرآنِ يَجْهرُ به» وفيهما عن جبيرِ بن مُطْعمٍ رضي الله عنه قال : سمعتُ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم يقرأُ في المَغربِ بالطُّورِ فما سمعتُ أحداً أحسنَ صوتاً أو قراءةً منه صل الله عليه وسلّم لكِنْ إنْ كان حوْلَ القارئ أحدٌ يتأذَّى بِجهْرهِ في قراءتِه كالنائم والمصليِّ ونحوهما فإنَّه لا يجْهرُ جهْراً يشَوِّشُ عليه أو يؤذيه لأنَّ النبيَّ صل الله عليه وسلّم خَرجَ على الناسِ وهُمْ يُصَلُّون ويجهرون بالقراءةِ فقال النبي صل الله عليه وسلّم :
«إن المُصَلّي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ في القرآن» رواه مالك في المُوَطَّأ
وقال ابن عبدالبر : وهو حديث صحيح

ومِن آدَابِها :
أنْ يُرتِّلَ القرآنَ ترتيلاً لقوله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 4]
فيقْرأهُ بتَمهُّلٍ بدونِ سُرعةٍ لأنَّ ذلك أعْوَنُ على تدَبُّر معانِيه وتقويمِ حروفِه وألْفاظِه وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالِك رضي الله عنه أنه سُئِل عن قراءة النبي 
صل الله عليه وسلّم فقال : كانتْ مَدَّاً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدُّ بسم الله ويَمدُّ الرحمن ويمدُّ الرحيم وسُئِلتْ أمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عنها عن قراءةِ النبي صل الله عليه وسلّم
فقالت : كان يُقَطِّعُ قراءتَه آيَةً آيةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أحمدُ وأبو داود والترمذي
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا تَنْثُروُه نثْرَ الرَّملِ ولا تهذُّوه هَذَّ الشِّعْرِ قِفُوْا عند عجائِبِه وحَرِّكُوا بهِ القلوبَ ولا يكنْ هَمُّ أحَدِكم آخِرَ السورةِ ولا بأْسَ بالسرعةِ الَّتِي ليس فيها إخْلالٌ باللفظِ بإسْقاط بعضِ الحروفِ أوْ إدغام ما لا يصح إدْغامُه فإنْ كان فيها إخلالٌ باللفظِ فهي حرَامٌ لأنها تغييرٌ للقرآنِ

ومِنْ آدَابِها :
أنْ يسجدَ إذا مرَّ بآيةِ سَجْدةٍ وهو على وضوءٍ في أيِّ وقتٍ كان مِنْ ليلٍ أوْ نهارٍ فيُكبِّرُ للسجودِ ويقولُ : سبحان ربِّي الأعلى ويدْعُو ثم يرفعُ مِنَ السجودِ بدونِ تكبير ولا سلامٍ لأنَّه لم يردْ عن النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم إلاَّ أنْ يكونَ السجودُ في أثْناءِ الصلاةِ فإنه يكَبِّر إذا سَجَد وإذا قام لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يُكبِّر في الصلاةِ كُلَّما خَفَضَ وَرفَعَ ويُحَدِّثُ أنَّ النبي صل الله عليه وسلّم كان يَفْعَلُ ذَلِك رواه مسلم
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : رأيتُ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم يُكبِّر في كلِّ رَفعٍ وخَفْضٍ وقيامٍ وقعودٍ رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه
وهذا يعُمُّ سجودَ الصلاةِ وسجودَ التلاوةِ في الصلاةِ

هذه بعض آدابِ القراءةِ فتأدَّبُوا بِها واحرِصوا عليها وابتغُوا بها من فضلِ الله

اللَّهُمَّ اجْعَلْنا من المعظِّمين لحرماتِك الفائزين بهباتِك الوارِثين لِجنَّاتِكَ واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلَّ الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين




المجلس الرابع عشر
مفطرات الصوم

الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق في أعْوادِه وغُصُونِه مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه أنزل القطْر وبلاً رَذاذاً فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذاً
{هَـذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } [لقمان: 11]

أحْمُده على جوده وإحسْانِه وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه صلَّ الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه وسَلَمَ تسليماً

إخواني : قال الله تعالى :
{فَالآنَ بَـاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [البقرة: 187]
ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ أصُولَ مُفَطِّراتِ الصومِ وذكَر النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم في السُّنَّةِ تمامَ ذلك

والمُفَطِّرَاتُ سبعةُ أنْواع :

الأول :
الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثماً فمَتَى جامع الصائمُ بطَل بصومُه فَرْضاً كان أوْ نَفْلاً ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يوماً واحداً لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكيناً لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من الْبُرِّ الجيِّد [ويجزئ الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن فإن كان الرز أثقل زيد في وزنه بقدره وإن كان أخف نقص من وزنه بقدره]
وفي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم عن ذلك
فقال : «هَلْ تجدُ رقبةً؟ قال : لا
قال : هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟ (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) قال : لا
قال : فأطْعِمْ ستين مِسْكيناً»
وهو في الصحيحين مطولاً

الثاني :
إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو نحو ذلك لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ :
«يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجْلِي» رواه البخاري
فأمَّا التقبيلُ واللَّمْس بدونِ إنْزالٍ فلا يُفَطِّرُ لمَا في الصحيحين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها : «أنَّ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم كان يُقَبِّلُ وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ ولَكِنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإِربِه»
وفي صحيح مسلم أنَّ عُمرَ بن أبي سلمة سأل النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم : أيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال النبي صل الله عليه وسلّم :
«سَلْ هذه ـ يعني أمَّ سلمةَ ـ فأخْبَرتْهُ أنَّ النبي 
صل الله عليه وسلّم كان يصنعُ ذلك فقال النبيُّ صل الله عليه وسلّم : أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له»
لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَداً للذَّريعةِ وَصوناً لصيامه عن الفسادِ ولذلك أمر النبي 
صل الله عليه وسلّم المتوضأ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه
وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يُفَطِّر لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه 
صل الله عليه وسلّم :
«إنَّ الله تَجَاوزَ عن أمَتِي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أوْ تتكلمْ» متفق عليه

الثالث :
الأكلُ أو الشربُ وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيَّاً كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب لقوله تعالى : {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [البقرة: 187]
والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله 
صل الله عليه وسلّم في حديث لَقِيْط بن صبرة : «وبالِغْ في الاستنشاقَ إلاَّ أن تكون صائماً» رواه الخمسة وصححه الترمذي
فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف

الرابع :
ما كان بمَعْنَى الأكْلِ والشربِ وهو شيئانِ :
أحَدُهما : حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطَّعامِ والشرابِ وقد حصل ذلك بحقن الدَّم فيه [هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر لأنه ليس أكلاً ولا شراباً ولا بمعناهما والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده ومن القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك]

الشيء الثاني : الإِبُر المغذِّيةُ الَّتِي يُكتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناوَلها أفْطَر لأنها وإنْ لم تكن أكْلاً وشرباً حَقِيْقةً فإنَّها بمعناهُما فَثَبَت لها حُكمهما فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ لأنها ليست أكلاً ولا شُرباً ولا بمعناهما فلا يثْبت لها حُكمهما ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ ولذا قال فُقُهاؤنا :
لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر
وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ «حقيقةُ الصيامِ» :
ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذٍ أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاطَ الْحُكْمِ عند الله ورسولِه
قال : وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ كان قولُ القائلِ : إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّراً لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ انتهى كلامِه رحمه الله

الخامسُ :
إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ لقولِ النبي 
صل الله عليه وسلّم :
«أفْطَر الحاجِمُ والمَحْجُومُ» رواه أحمد وأبو داود من حديث شَدَّاد بن أوْسٍ


قال البخاريُّ : ليس في البابِ أصَحُّ منه
وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثر فقهاءِ الحديث وفي معنى إخراجِ الدَّمِ بالحجامِة وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صوماً واجباً أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطرٌ له لا تندفعُ ضرورته إلا به ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة ويفطر ذلك اليوم ويقضي وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذا لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ

السادسُ :
التَّقَيُّؤ عَمْداً وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم لقول النبي 
صل الله عليه وسلّم :
«منْ ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمداً فلْيَقض» رواه الخمسة إلا النسائيَّ وصححه الحاكم
ومَعْنَى ذرعه غَلَبه ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه أو بالشم مثل أن يشم شيئاً ليقيء به أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه

السابعُ :
خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ لقولِ النبي 
صل الله عليه وسلّم في المَرْأةِ أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ

ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجباً كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح ثم إن من تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك أما إن كان صومُه تطوعاً فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر لكن الأولى الإِتمام

إخواني :
حافظُوا على الطَّاعات وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات وابتهلوا إلى فاطرِ الأرض والسموات وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران

اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لاغتنامِ الأوقات، وشغْلِها بالأعمالِ الصالحات، اللَّهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان وعاملنا بالعفوِ والغُفْران اللَّهُمَّ يَّسرْنَا لليُسرى وجنِّبْنا العُسْرى واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والأولى اللَّهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبداً يا ربَّ العالمين
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين


المجلس الخامس عشر
شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطِّرُ وما يجوز للصائم

الحمدُ لله الحكيم الخالق العظيم الحليم الصادق الرحيِمِ الكريمِ الرازِق رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ وثبَّتَ الأرضَ بالجبالِ الشواهِق تَعرَّفَ إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق وتكفَّلَ بأرزاقِ جميع الخلائق خلق الإِنسان من ماء دافق وألزمه بالشرائع لوصل العلائق وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق

أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ لا منافِق وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الذي عمَّتْ دعوتُه النازل والشَّاهِق صل الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المَغْالِقَ وعلى عثمانَ الذي مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق وسلَّم تسليماً

إخواني : إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ والقيءُ لاَ يُفطِّرُ الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً فهذه ثلاثة شروطٍ :

الشرطُ الأوَّلُ :
أنْ يكونَ عالماً فإن كان جاهِلاً لم يُفطِرُ لقوله تعالى في سورةِ البقرةِ
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [286]
فقال الله : قد فَعَلْت [رواه مسلم]
وقوله تعالى :
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 5]
وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه لما في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنه قال : لمَّا نزَلتْ هذه الآية :
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } [البقرة: 187]
عمَدتُ إلى عِقالَين : أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله 
صل الله عليه وسلّم فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ فقال النبيُّ صل الله عليه وسلّم :
«إنَّ وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ وسادك إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل»
فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخيطانِ ولم يأمُرُه النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم بالقضاءِ لأنه كان جاهلاً بالْحُكْمِ
وفي صحيح البخاريِّ من حديثِ أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ : أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم يوم غيم ثم طلعت الشمس ولم تذكر أن النبي صل الله عليه وسلّم أمرَهُمْ بالقضاءِ لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لنُقِلَ لأنه ممَّا توَفَّرُ الدَّواعِي على نقلِهِ لأهميَّتِه
بل قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية في رسالةِ (حقيقة الصيام) : إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ لَكنْ متى علِم ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ
ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ وقد أباحَ الله له الأكل والشربَ والجِماعَ حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسكَ ولفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ

الشَّرطُ الثاني :
أنْ يكونَ ذاكِراً فإنْ كان ناسياً فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم أنَّه قال :
«من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه» متفق عليه واللَّفظ لمسلم
فأمْرُ النبي 
صل الله عليه وسلّم بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فَمِه إن كان فيه شيءٌ لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ ويجب على من رأى صائماً يأكلُ أو يشربُ أن يُنبِّههُ لقوله تعالى : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة: 5]

الشَّرطُ الثالثُ :
أنْ يكونَ مُخْتاراً أي مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته فإنْ كانَ مُكرَهاً فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهاً وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى :
{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَـانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106]
فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى ولقولِهِ 
صل الله عليه وسلّم :
«إنَّ الله تجاوز عن أمَّتِي الْخَطأ والنسيانَ وما اسْتُكرهوا عليه» رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ وحسَّنَه النَّوَوِيُّ
فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعاً بغير إذنه وهو حاضرٌ ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه
ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً ولا بوضع دواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُرباً ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب
قال شيخ الإِسلام ابن تيميةَ في رسالةِ (حقيقةُ الصيام) : ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ فعَلِمْنَا أنَّها ليست مُفَطِّرةً قال : فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ 
صل الله عليه وسلّم بَيانُهُ ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبَلَّغُوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ صل الله عليه وسلّم في ذلك لا حَديثاً صحيحاً ولا ضعِيفاً ولاَ مُسْنداً ولا مُرسَلاً عُلِم أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئاً من ذلك والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني أنَّ النبي صل الله عليه وسلّم أمر بالإِثمد المُرَوَّح عندَ النَّوم وقال :
«ليتَّقهِ الصائِمُ» ضعيفٌ رواه أبو داود في السنن ولم يرْوهِ غيرُه
قال أبو داود : قال لي يحيى بن معين هذا حديث منكر
وقال شيخ الإِسلام أيضاً والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يُبيِّنها النبيُّ 
صل الله عليه وسلّم بياناً عاماً ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ انتهى كلامُه رحمه الله
وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ

ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه ولا يُفْطِرُ بالمضمضمةِ والاستنشاقِ لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تَهَّرب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم قال :
«أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً»


ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي 
صل الله عليه وسلّم :
«لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأَمرْتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ» رواه الجماعة
وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه : «رأيتُ النبيَّ 
صل الله عليه وسلّم ما لا أحْصِي يتسوَّك وهو صائمٌ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي [ذكره البخاري معلقاً بصيغة التمريض وحسنه الترمذ وقال الحافظ ابن حجر في موضع من التلخيص : إسناده حسن]
ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذاً قويَّاً ويُخشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه وفي السِّواكِ غُنيْةً عنه
ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّفُ عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتَّبَرُّدِ بالماءِ ونحوه لما رَوى مَالكٌ وأبو داودَ عن بعض أصحابِ النبيِّ 
صل الله عليه وسلّم قالَ : رأيتُ النبيَّ صل الله عليه وسلّم بالُعَرْجِ (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ أوْ من الْحَر [صحيح]

وبلّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْباً فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً وقال الْحَسَنُ لا بأسَ بالمضمضمةِ والتَّبرُّدِ للصائمِ ذكَرَ هذه الاثارَ البخاريُّ في صحيحِه تعْلِيقاً

إخواني : تَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون ومنْ يُردِ الله به خيراً يُفَقِّههُ في الدِّينِ

اللَّهُمَّ فقهْنا في ديْنِنا وارزقْنا العمل به وثبِّتنَا عليه وتوفَّنَا مؤمِنين وألْحِقنَا بالصالحين واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمينَ وصلَّ الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجْمعينَ

ليست هناك تعليقات