كتاب قواعد قرآنية للدكتور عمر بن عبدالله المقبل - القاعدة السادسة والثلاثون
هذه قاعدة شرعية من أعظم القواعد الشرعية التي يفزع إليها العلماء في فتاواهم
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في سورة التغابن وفي تدبر سياقها ما يحسن إيراده هنا خاصةً وأن هذه القاعدة بدأت بالفاء التي يسميها بعض العلماء :
الفاء الفصيحة أو فاء التفريع فما بعدها فرعٌ عما قبلها ذلك أن الله جل وعلا قال قبل هذه القاعدة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
[التغابن : ١٤-١٥]
ثم جاء التعقيب بعد هذا بقوله ﷻ :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
[التغابن : ١٦]
«أي : إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك
ولما كانت التقوى -في شأن المذكورات وغيرها- قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصًا على إرضاء شهوة النفس -في كثير من أحوال تلك الأشياء- زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله : ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ و ﴿مَا﴾ مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعًا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان وجعلت الأزمان ظرفًا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة فليس في قوله : ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ تخفيف ولا تشديد ولكنه عَدل وإنصافٌ ففيه ما عليهم وفيه ما لهم»
(التحرير والتنوير 28/258 باختصار يسير)
وبعد هذا العرض المجمل لمعنى القاعدة يتبين أن هذا القدر من التقوى هو الواجب على العبد فعله -وهو تقوى الله ما استطاع- أما التقوى التي يستحقها الله تعالى فهي التي جاءت في قوله ﷻ :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
[آل عمران : ١٠٢]
وهي التي فسرها جمع من السلف بقوله : أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر
(انظر : تفسير السعدي 141)
وبهذا الجمع يتبين أنه لا يصح قول من قال : إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾
ناسخة لآية آل عمران :
﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
إن هذه القاعدة القرآنية المحكمة تدل بوضوح على أن كل واجب عجز عنه المكلف فإنه يسقط عنه وأنه إذا قدر على بعض المأمور وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(البخاري (6858) ومسلم (1337))
فدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع ما لا يمكن حصره كما يقول غير واحدٍ من أهل العلم
(تفسير السعدي : 141)
ولعلنا نأخذ بعض الأمثلة التي تجلي هذا القاعدة :
١- أول هذه الأمثلة التي يحسن التمثيل بها هو ذلك الموقف الذي جعل النبي ﷺ يقول كلمته الجامعة الآنفة الذكر :
«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» :
فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله ﷺ فقال :
«أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا
فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟! فسكت حتى قالها ثلاثًا
فقال رسول الله ﷺ :
«لو قلتُ : نعم لوجبت! ولما استطعتم»!
ثم قال : «ذروني ما تركتكم! فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
٢- ومن تطبيقات هذه القاعدة أنه :
«إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالًا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى :
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة
قال الله تعالى :
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾
حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما»
(قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/110)
٣- أن الواجب عند إرادة الصلاة :
التطهر بالماء فإن عدم أو تعذر استعماله فإن الإنسان ينتقل إلى التيمم كما هو
معلوم
٤- أن صلاة الفريضة الأصل فيها أن يؤديها المصلي قائمًا، فإن عجز صلى جالسًا وإلا صلى قاعدًا كما دلّ على ذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ويدخل في ذلك جميع شروط الصلاة وأركانها وواجباتها
٥- وفي الصيام يجب على المسلم أن يمسك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإن كان الصيام يشق عليه أفطر وانتقل إلى الإطعام
٦- وفي الحج فإن مبنى هذا الركنِ كلّه على هذا الأصل العظيم : الاستطاعة كما قال ﷻ :
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
[آل عمران : ٩٧]
وكما سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٧- ومن فروع هذه القاعدة في مناسك الحج :
أن من لم يجد مكانًا في منى أو مزدلفة سكن حيث تيسر له ومثله فيمن عجز عن الرمي لأي سبب معتبر شرعًا ولعل الحج من أكثر أركان الإسلام فروعًا تطبيقيةً لهذه القاعدة العظيمة
٨- ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أن المكلف يجب عليه أنه ينكر باليد إذا قدر عليه فإن عجز فباللسان وإلا فبالقلب كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المخرج في الصحيح
(صحيح مسلم 49)
٩- وفي باب النفقات : فإن من عليه نفقةٌ واجبة وعجز عن جميعها بدأ بزوجته فرقيقه فالولد فالوالدين فالأقرب ثم الأقرب وكذلك زكاة الفطر
١٠- ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة : مسائل الولايات والوظائف الدينية والدنيوية كلُّها -صغارُها وكبارُها- داخلة تحت هذه القاعدة العظيمة فكل ولاية يجب فيها تولية الأصلح الذي يحصل بتوليته مقصود الولاية فإن تعذرت كلها وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل وقد سبق حديث مفصّل عند الكلام على قاعدة :
﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
[القصص : ٢٦]
(وهي القاعدة السابعة عشرة)
وبما سبق من أمثلة يتجلى لنا عظيم موقع هذه القاعدة من هذا الشرع المطهر الذي مبناه على اليسر والسعة
فنسأل الله تعالى الذي هدانا لهذا الدين القويم أن يثبتنا عليه حتى نلقاه وأن يرزقنا الفقه في دينه والبصيرة فيه
ليست هناك تعليقات