الأحاديث النووية من الحديث الحادى عشر الى الحديث الخامس عشر

الحديث الحادي عشر

عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صل الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
الشرح

كان النبي صل الله عليه وسلم دائم النصح لأمته يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم ومعادهم فأمرهم بسلوك درب الصالحين ووضح لهم معالم هذا الطريق والوسائل التي تقود إليه ومن جملة تلك النصائح النبوية الحديث الذي بين أيدينا والذي يُرشد فيه النبي صل الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما فيه شبهة والتزام الحلال الواضح المتيقن منه
والراوي لهذا الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله
صل الله عليه وسلم والسبط : هو ولد البنت وقد توفي النبي صل الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة وهذا الحديث منها
وقد صدّر النبي
صل الله عليه وسلم الحديث بقوله : ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى : { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 ) وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة هل هو للوجوب ؟ بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ أم إنه على الاستحباب ؟

إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب لأن ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام يقود الإنسان إلى الورع والتقوى واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء فإذا تعلقت الريبة في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه

ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة والعبارات المشرقة التي تدل على تحليهم بالورع وتمسكهم بالتقوى فمن أقوالهم : ما جاء عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " يزعم الناس أن الورع شديد وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : " عظني " قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض "

ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه فجاء له الغلام يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه " فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه

ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب " وقال الذي له الأرض : " إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه : " ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " وقال الآخر : " لي جارية " قال : " أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا )
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام وله جناحان يطير بهما في الجنة فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع

وللفقهاء وقفة عند هذا الحديث فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب كثيرة من الأحكام ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " فنطرح الشك ونأخذ باليقين وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا فإذا أحدث رجل ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه قد أحدث فيعمل به ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي عملا بالقاعدة السابقة وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه متوضأ لأن وضوءه متيقنٌ منه وحدثُه مشكوك فيه فيعمل باليقين

وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ) وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى وهذا يورثه طمأنينة في نفسه مبعثها بُعده عن طريق الهلاك أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات حصل له القلق والاضطراب لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب أو يرتاح له ضمير

وخلاصة القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ومدى أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى إنه وليّ ذلك والقادر عليه

                                                                   الحديث الثانى عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) حديث حسن رواه الترمذي وغيره
الشرح
أرشدنا النبي
صل الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريق الذي يبلغ به العبد كمال دينه وحسن إسلامه وصلاح عمله فبيّن أن مما يزيد إسلام المرء حسنا أن يدع ما لا يعنيه ولا يفيده في أمر دنياه وآخرته
وفي قوله
صل الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) توجيه للأمة بالاشتغال بما ينفعها ويقرّبها من ربّها كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( احرص على ما ينفعك ) فأرشد صل الله عليه وسلم إلى اغتنام الأوقات بالخيرات فإن الدنيا مزرعة للآخرة وعمر الدنيا قصير فهو كظل شجرة يوشك أن يذهب سريعا لذا فالإنسان العاقل الذي جعل الآخرة همّه والجنة مأربه يغتنم أوقاته كلها وقد أحسن الشاعر إذ قال : 

اغتنم ركعتين في ظـلمـة الـليـــل إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالخوض في الـبـاطـل فاجعل مكانه تسبيحا

إن اهتمام المرء وانشغاله بما يعنيه فيه فوائد عظيمة فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه وأوشك اشتغاله بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال كما أن انشغال المرء بنفسه وبما يعينه فيه حفظ للوقت ومسارعة في الخير فضلا عما يورثه ذلك على مستوى المجتمع من حفظ الثروات وتنمية المكتسبات وإشاعة روح الجدية والعمل والإخاء والتعاون

والتَرك المقصود في هذا الحديث يشمل أمورا كثيرة منها ترك فضول النظر لما في التطلع إلى متاع الدنيا من إفساد للقلب وإشغال للبال يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } ( طه : 131 ) : " أي : لا تمد عينيك معجبا ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة والملابس الفاخرة والبيوت المزخرفة والنساء المجملة فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا تبتهج بها نفوس المغترين وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين ويتمتع بها بقطع النظر عن الآخرة القوم الظالمون ثم تذهب سريعا وتمضي جميعا وتقتل محبيها وعشاقها فيندمون حيث لا تنفع الندامة "

ومن الأمور التي يشملها الترك في الحديث : ترك فضول الكلام ولغو الحديث لأنه يتعلق بجارحة خطيرة ألا وهي جارحة اللسان يشهد لما قلناه ما جاء في الرواية الأخرى لهذا الحديث : ( إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه ) رواه أحمد

وقد امتدح الله عباده المؤمنين بقوله : { والذين هم عن اللغو معرضون } ( المؤمنون : 3 ) فمن صان لسانه عن فضول القول سَلِمَ من انزلاقه فيما لا يحبه الله ويرضاه وحمى منطقه من الغيبة والنميمة ولذلك حث الشرع في مواطن كثيرة على لزوم الصمت إلا بما فيه ذكر الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله عز وجل : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ( النساء : 114 )

وينبغي أن يُعلم أن الضابط الصحيح لترك ما لا يعني هو الشرع لا مجرد الهوى والرأي لذلك جعله النبي
صل الله عليه وسلم أمارة على حسن إسلام المرء فإن البعض يدع أمورا قد دلّت عليها الشريعة بدعوى أنها تدخّل في شؤون الآخرين فيعرض عن إسداء النصيحة للآخرين ويترك ما أمره الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة احترام الخصوصيات وكل هذا مجانبة للشرع وبعد عن هدى النبوة فإنه صل الله عليه وسلم كان تاركا لما لا يعنيه ومع ذلك كان ناصحا مرشدا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر عاملا بأمر الله في حلّه وترحاله
وخلاصة القول : إن في الحديث إرشاداً لما فيه حفظ وقت الإنسان من الضياع ودينه من الصوارف التي تصرفه عن المسارعة في الخيرات والتزود من الصالحات مما يعين العبد على تزكية النفس وتربيتها على معاني الجد في العمل

                                                                   الحديث الثالث عشر

عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صل الله عليه وسلم أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) رواه البخاري ومسلم

الشرح

حرص الإسلام بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة وفي الوقت ذاته شرع لهم ما ينظم علاقتهم بعضهم ببعض حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم ولا يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط متين الأساس
ومن أجل هذا الهدف أرشد النبي
صل الله عليه وسلم أمته إلى تحقيق مبدأ التكافل والإيثار فقال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) فبيّن أن من أهم عوامل رسوخ الإيمان في القلب أن يحب الإنسان للآخرين حصول الخير الذي يحبه لنفسه من حلول النعم وزوال النقم وبذلك يكمل الإيمان في القلب
وإذا تأملنا الحديث لوجدنا أن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس يتطلب منها سموا في التعامل ورفعة في الأخلاق مع الغير انطلاقا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل وهذا يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس ويتغاضى عن هفواتهم ويعفو عمن أساء إليه وليس ذلك فحسب بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم ويعود المريض منهم ويواسي المحتاج ويكفل اليتيم ويعيل الأرملة ولا يألو جهدا في تقديم صنائع المعروف للآخرين ببشاشةِ وجه وسعة قلب وسلامة صدر

وكما يحب للناس السعادة في دنياهم فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة لهذا فهو يسعى دائما إلى هداية البشرية وإرشادهم إلى طريق الهدى واضعا نصب عينيه قول الله تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } ( فصلت : 33 )

ويتسع معنى الحديث ليشمل محبة الخير لغير المسلمين فيحب لهم أن يمنّ الله عليهم بنعمة الإيمان وأن ينقذهم الله من ظلمات الشرك والعصيان ويدل على هذا المعنى ما جاء في رواية الترمذي لهذا الحديث قال
صل الله عليه وسلم : ( وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما )
ولنا في رسول الله
صل الله عليه وسلم خير أسوة في حب الخير للغير فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يدّخر جهدا في نصح الآخرين وإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة روى الإمام مسلم أن النبي صل الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرنّ على اثنين ولا تولين مال يتيم )
أما سلفنا الصالح رحمهم الله فحملوا على عواتقهم هذه الوصية النبويّة وكانوا أمناء في أدائها على خير وجه فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم " ولما أراد محمد بن واسع رحمه الله أن يبيع حمارا له قال له رجل : " أترضاه لي ؟ فردّ عليه : لو لم أرضه لك لم أبعه " وهذه الأمثلة وغيرها مؤشر على السمو الإيماني الذي وصلوا إليه والذي بدوره أثمر لنا هذه المواقف المشرفة

ومن مقتضيات هذا الحديث أن يبغض المسلم لأخيه ما يبغضه لنفسه وهذا يقوده إلى ترك جملة من الصفات الذميمة كالحسد والحقد والبغض للآخرين والأنانية و الجشع وغيرها من الصفات الذميمة التي يكره أن يعامله الناس بها

وختاما : فإن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة مجتمع فاضل ينعم أفراده فيه بأواصر المحبة وترتبط لبناته حتى تغدو قوية متماسكة كالجسد الواحد القوي الذي لا تقهره الحوادث ولا تغلبه النوائب فتتحقق للأمة سعادتها وهذا هو غاية ما نتمنى أن نراه على أرض الواقع والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

                                                                   الحديث الرابع عشر

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه البخاري ومسلم
الشرح
ابتعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا
صل الله عليه وسلم بالدين الخاتم الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين والتزم بأحكامه صار فردا من أفراد المجتمع الإسلامي يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له ومن جملة هذه الحقوق عصمة دمه وماله وعرضه
وإعطاء المسلم هذه الحقوق له دلالته الخاصة فالحديث عن العصمة بكافة صورها هو حديث عن حرمة المسلم ومكانته في هذا المجتمع وقد قرر النبي
صل الله عليه وسلم هذه الحقوق يوم حجة الوداع فقال : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) رواه مسلم وقال أيضا : (من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري
والشريعة الإسلامية بما تكفله من هذه الحقوق تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لبنات المجتمع المسلم وتعميق الروابط بين المؤمنين وبهذا يتحقق لهذا المجتمع أمنه وسلامة أفراده

ولكن المشكلة تكمن في أولئك الأفراد الذين يشَّكل وجودهم خطرا يهدد صرح الأمة ولم تكن هذه الخطورة مقتصرة على فسادهم الشخصي أو وقوعهم في بعض المحرمات وتقصيرهم في حقوق ربهم إنما تعدت إلى انتهاك حقوق الآخرين وتهديد حياة الاستقرار التي يعيشها هذا المجتمع فمن هنا رفع الإسلام عن هؤلاء المنعة الشرعية وأسقط حقهم في الحياة

وفي الحديث الذي بين أيدينا بيان لتلك الأمور التي من شأنها أن تزيل العصمة عن فاعلها وتجعله مهدر الدم وهي في قوله
صل الله عليه وسلم : ( الثيّب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة )
فأما الزاني المحصن فإن الحكم الشرعي فيه هو الرجم حتى الموت ولعل في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه دلالة واضحة على هذا الحكم ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ..والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم ) رواه مسلم وقد رجم النبي
صل الله عليه وسلم ماعزا و الغامدية رضي الله عنهما في عهده وأجمع المسلمون على هذا الحكم وكان فيما نزل من القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه : " والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم " انظر مجموع الفتاوى 20/399
وليس ثمة شك في أن هذا الحكم الذي شرعه الله تعالى في حق الزاني المحصن هو غاية العدل وهو الدواء الوحيد لقطع دابر هذه الظاهرة فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بعباده وهو الذي خلقهم فهو أدرى بما يصلحهم وينفهم لأنه أحكم الحاكمين ولكنا إذا أردنا أن نتلمس الحكمة في تشريع الله تعالى لهذا النوع من العقوبة بحيث اختصت في هذا الحد من الحدود ولم تشرع في غيره فنقول : إذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نتأمل الآثار المدمرة التي يخلفها مثل هذا الفعل الشنيع على جميع المستويات فهو ليس انتهاكا لحقوق الآخرين واعتداء على أعراضهم فحسب بل هو جريمة في حق الإنسانية وإفساد للنسل والذرية وسبب في اختلاط الأنساب فلهذا وغيره جاء حكم الله تعالى في الزاني المحصن على هذا النحو

ويجدر بنا أن نشير إلى أن هذه العقوبة لا تتم إلا عندما يقرّ الزاني بما فعله من تلقاء نفسه أو بشهادة أربعة شهود على حصول ذلك منه وهذا في الحقيقة قد يكون متعذراً ومن ناحية أخرى دعت الشريعة من زلت قدمه بهذه الخطيئة أن يستر على نفسه ولا يفضحها ويتوب إلى الله عزوجل ولا داعي لفضح نفسه ولهذا كان النبي
صل الله عليه وسلم يراجع من يعترف بفعله مرات ومرات لعله يتراجع عن اعترافه هذا ونلمس ذلك جليا في قوله صل الله عليه وسلم : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) البخاري ومن هنا نرى أن الشريعة وضعت هذا الحد ضمن قيود واضحة وضوابط محددة حتى لا يطبق إلا في نطاق لازم وفي الموضع الصحيح
إن ذلك يعطينا تصورا واضحة بأن هذه العقوبة ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها ولكنها وسيلة لاستئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها وهذا ما أثبته التاريخ في العهد النبوي فإن كتب السير لم تنقل لنا حصول هذه الجريمة الخلقية إلا في عدد محدود للغاية

ثم ذكر النبي
صل الله عليه وسلم أمرا آخر يحل به دم المسلم وهو : ( النفس بالنفس ) أي : قتل العمد وقد أجمع العلماء أن قاتل النفس المعصومة عمدا مستحق للقتل إذا انطبقت عليه الشروط انطلاقا من قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ( المائدة :45 ) وهذا يشمل أن يكون المقتول أو القاتل ذكرا أم أنثى وهذا العموم مفهوم من الآية السابقة يؤيد ذلك أن النبي صل الله عليه وسلم صح عنه أمر بقتل يهودي قصاصا من امرأة
وإذا نظرنا إلى قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ( البقرة :179) لأدركنا عظم الحكمة التي لأجلها شرع القصاص في الإسلام فالقصاص بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا أو إرواء لغليل النفوس المكلومة بل هو أمر أعظم من ذلك إنه حياة للأمم والشعوب فإن القاتل إذا علم أن حياته ستكون ثمنا لحياة الآخرين فسوف يشكّل ذلك أكبر رادع له عن فكرة القتل وبهذا تستقيم الحياة وتعيش المجتمعات في أمن وطمأنينة

وثالث الأمور التي تهدر الدم وتسقط العصمة الردة عن دين الله تعالى لقوله
صل الله عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أي : المفارق لجماعة المسلمين ويعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه )
والردة قد تكون بالقول الصريح : كأن يكفر بالله صراحة أو بالاعتقاد : كأن يجحد شيئا معلوما من الدين بالضرورة أوإنكار النبوة أو البعث أو تكون باستحلال ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله كما قد تكون بالفعل : كمن رمى المصحف في مكان القاذورات والعياذ بالله أو سجد لصنم فهذه أمثلة على بعض ما يخرج المرء من دين الله

وينبغي أن نشير هنا إلى أنه قد ورد في أحاديث أخرى القتل بغير هذه الثلاث فقد ورد قتل اللوطي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي كما ورد الأمر بقتل الساحر وقتل من أراد أن يشق عصا المسلمين ومن أراد الإفساد في الأرض وقطع الطريق ولعلنا نلاحظ أن هذه الأصناف المذكورة تندرج ضمنا تحت الأنواع الثلاثة التي تناولها الحديث
إن هذه التشريعات التي أحكمها الله سبحانه وتعالى هي صمام الأمان الذي يحفظ للأمة أمنها واستقرارها وبها تصان حقوق الفرد والمجتمع فحري بنا أن نعقلها ونتدبرها وأن نطبقها على واقعنا كما سطرناها في كتبنا

                                                                   الحديث الخامس عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) رواه البخاري ومسلم
الشرح

نشأ العرب في جاهليتهم على بعض القيم الرفيعة والخصال الحميدة وسادت بينهم حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من شخصيتهم يفتخرون بها على من سواهم ويسطّرون مآثرها في أشعارهم
وتلك الأخلاق العظيمة التي امتازوا بها لم تأت من فراغٍ ولكنها نتاج طبيعي من تأثّر أسلافهم بدعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام حتى اعتادوا عليها وتمسّكوا بها عند معاملتهم للآخرين ثم ما لبث فجر الإسلام أن بزغ فجاءت تعاليمه لترسي دعائم تلك الأخلاق وتعمق جذورها في نفوس المؤمنين والتي كان منها : الحث على إكرام الضيف والحفاوة به

إن إكرام الضيف يمثل سمة بارزة للسمو الأخلاقي الذي تدعو إليه تعاليم الشريعة والتخلق بها يعدّ مظهرا من مظاهر تمام الإيمان وكماله ويكفينا دلالة على ذلك قوله
صل الله عليه وسلم في الحديث الذي بين أيدينا : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )
وليس المقصود من الحديث نفي مطلق الإيمان عمّن لم يأت بهذا الخلق أو غيرها من الخصال المذكورة إنما أريد به المبالغة في الحث على المسارعة في الامتثال لهذه الأوامر كما يقول القائل : " إن كنت ابني فأطعني " ويعنون بذلك تشجيع الولد على طاعة أبيه فهو إذا : تشجيع على التمسك بتلك الفضائل

وقد وعى المؤمنون في الصدر الأول ذلك جيدا وفهموا المراد منه فصار للضيافة شأن عظيم في حياتهم فلا عجب أن تنقل لنا كتب السير في هذا المضمار من الأمثلة أروعها ومن المواقف أسماها يأتي في مقدمتها ما رواه الإمام مسلم رحمه الله أن النبي
صل الله عليه وسلم أتاه ضيف فلم يجد ما يضيفه به فقال لأصحابه : ( من يضيف هذا الليلة رحمه الله ) فقام رجل من الأنصار فقال : " أنا يا رسول الله " فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : " هل عندك شيء ؟ " قالت : " لا إلا قوت صبياني " قال : " فعلّليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفيء السراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه " قال : فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صل الله عليه وسلم فقال : ( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ) إن هذا الموقف العظيم وهذا التفاني في إسداء الكرم للضيف لثمرة من ثمار إيمانهم العميق بثواب الله وأجره
وبعد أن عرفنا مكانة الضيافة في منظومة الأخلاق وقدرها عند الله فإنه يجدر بنا أن نقف وقفة سريعة مع بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها في الضيافة فمن ذلك : أن يدعو الإنسان لضيـافته الأتقياء والصالحين ويتجنب دعوة الفسقة من الناس عملا بقول النبي
صل الله عليه وسلم : ( ولا يأكل طعامك إلا تقي ) كذلك فإنه يدعو لضيافته دون تمييز بين الفقير والغني فإن هذا من التواضع الذي ينبغي أن يتحلّى به المؤمن وقد جاء في الحديث : ( شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ) متفق عليه فإذا حضر ضيوفه يستقبلهم عند بابه ويبشّ عند قدومهم ويطيب في حديثه معهم وقد سئل الأوزاعي رحمه الله : " ما إكرام الضيف ؟ " قال : " طلاقة الوجه وطيب الكلام " وقال الشاعر :
وإني لطـلـق الـوجــه للمـبتغـي القــِرى وإن فنــائي لـلـقــرى لــــرحيب
أضاحـك ضـيـفـي عنـد إنـزال رحـلـــه فيخـصب عنـدي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكثر القِرى ولكنـما وجه الكــريم خصـيـــب

فإذا حضر وقت الطعام فإنه يأتيهم بما تسير له ولا ينبغي له أن يتكلف ما لايستطيع فإن هذا مخالف للهدي النبوي وفيه أذى وإحراج للضيف من ناحية أخرى ومن إكرام الضيف : أن يخرج معه إلى باب الدار عند توديعه فإن ذلك يشعره بمدى الحفاوة به والفرحة بحصول زيارته

ولئن كان الإسلام قد أولى العناية بحق الضيف على بعده وقلّة حضوره فإن اهتمامه بالجار من باب أولى وحسبنا دلالة على ذلك : أن الله تعالى قرن الأمر بالإحسان إليه مع الأمر بعبادته سبحانه قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب } ( النساء : 36 ) وأكد النبي
صل الله عليه وسلم هذا الحق في قوله : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )
ومن هنا كان إيذاء الجار من كبائر الذنوب عند الله عزوجل بل هو منافٍ لكمال الإيمان وقد روى البخاري في صحيحه أن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) قيل : ومن يا رسول الله ؟ قال : ( الذي لا يأمن جاره بوائقه ) أي لا يسلم من شره وأذاه
ولاشك أن الإحسان إلى الجار قربة عظيمة إلى الله تعالى ومن هنا جعل الإسلام له حقوقا عديدة من جملتها : أن يمدّ جسور المحبة بينه وبين جيرانه وأن يأتي كل ما من شأنه أن يوطّد هذه العلاقة ويزيدها قوة فيتعهّده دائما بالزيارة والسؤال عن أحواله ويمدّ له يد العون في كل ما يحتاجه ويقف معه في الشدائد والنوائب التي قد تصيبه ويشاركه في أفراحه التي تسعده

ومن حقوقه أيضا : أن يستر ما يظهر له من عيوبه ويحفظ عينه من النظر في عوراته ويتواصل معه بالهدايا بين الحين والآخر فإن ذلك يزيد الألفة ويقوي المحبة مهما كانت الهدية قليلة القدْر فإن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة ) رواه البخاري ومسلم والفرسن : هو عظم قليل اللحم
إن الإحسان إلى الجار والكرم مع الضيف يعدان من مظاهر التكافل الاجتماعي الذي يدعو إليه الإسلام هذا وقد ذكر الحديث شعبة أخرى من شعب الإيمان وهي المتمثلة في قوله
صل الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) ففيه دعوة إلى الكلمة الطيبة من ناحية ومن ناحية أخرى تحذير من إطلاق اللسان فيما لا يرضي الله تبارك وتعالى
وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة على بيان خطر هذه الجارحة فكم من كلمة أودت بصاحبها في نار جهنم وكم من كلمة كانت سببا لدخول الجنة وقد ثبت في البخاري ومسلم أن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب )
وهكذا أيها القارئ الكريم يتبين لنا مما سبق بعضا من الجوانب المشرقة والأخلاق الرفيعة التي يدعو إليها الإسلام ويحث على التمسك بها فما أجمل أن نتخلق بها ونتخذها نبراسا ينير لنا الطريق

ليست هناك تعليقات