الأحاديث النووية من الحديث السادس والعشرون الى الحديث الثلاثون

الحديث السادس والعشرون

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) رواه مسلم

الشرح

يوم أن خلق الله تعالى هذه الدنيا بثّ فيها ما يكفل للإنسان عيشا رغيدا وحياة هانئة سعيدة إلا أن هذه الحياة على اتساعها وجمال ما فيها مآلها إلى الفناء كالزهرة اليانعة في البستان سرعان ما تذبل وتسقط أوراقها وإنما هيأها الله لبني آدم كي تكون مزرعة للآخرة ومجالا واسعا للتنافس على طاعة الله والتسابق في ميادين الخير

ولقد كان هذا هو همّ الصحابة الأول وتطلعهم الأسمى فشمّروا عن سواعد الجد وانطلقوا مسارعين إلى ربهم بقلوب قد طال شوقها إلى الجنة ونفوس قد تاقت إلى نعيمها الدائم فكان الواحد منهم إذا سمع عن عمل يقرّبه إلى الله ويدنيه من رحمته كان أول الممتثلين له عملا بقوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ( آل عمران : 133 )

ولئن كانت ميادين الصلاة والصيام ونحوها مقدورة من أغلب الناس إلا أن الصدقة بالمال مقصورة على أغنياء المسلمين القادرين على بذله والجود به ومن هنا دخل الحزن قلوب فقراء الصحابة إذ فاتهم هذا المضمار من مضامير الخير وكلما سمعوا آية أو حديثا يحث الناس على البذل والصدقة ويبيّن فضلها وما أعد الله لأهلها ، حزّ ذلك في نفوسهم فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكين له ولنعش معا لحظات ماتعة مع هذا الموقف العظيم الذي يرويه لنا أبو ذر رضي الله عنه

لقد قال الصحابه : " يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور " ولم يكن قولهم هذا انطلاقا من الحسد لإخوانهم أو طمعا في الثراء ولكنه خرج مخرج الغبطة وتمني حصول الخير ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء ونظير هذا قول النبي صل الله عليه وسلم : ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ) متفق عليه

وهنا أدرك النبي صل الله عليه وسلم ما يدور في نفوس أصحابه من اللهفة إلى الخير فعالج ذلك الموقف بكل حكمة  وبيّن لهم سعة مفهوم الصدقة فإنها ليست مقصورة على المال فحسب بل تشمل كل أنواع الخير ولهذا قال صل الله عليه وسلم ( إن بكل تسبيحة صدقة )

إن ذكر الله تعالى من التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد هو من الباقيات الصالحات التي ذكرها الله تعالى في قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } ( الكهف : 46 ) وقد وردت نصوص كثيرة تدل على فضل الذكر ففي مسند أحمد وعند الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ؟ وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : ذكر الله عز وجل ) وقال أبو الدرداء راوي الحديث : " لأن أقول الله أكبر مائة مرة أحبّ إليّ من أن أتصدق بمائة دينار " ، وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبق المفردون قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟  قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ) رواه مسلم فذكر الله من أعظم صدقات العبد على نفسه

وفي الجانب الآخر : فإن دعوة الناس إلى التزام الأوامر وترك النواهي إنما هو صدقة متعدية إلى أفراد المجتمع ودليل على خيرية هذه الأمة كما قال الله عزوجل في كتابه : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران : 110 ) وهذا النوع من الصدقة واجب على كل أفراد الأمة كلٌّ بحسبه علاوة على أنه ضمان لسلامتها وتصحيح مسارها

ويجدر بنا أن نشير إلى أن أبواب الخير غير مقصورة على ما ورد في الحديث بل وردت أعمال أخرى أخذت وصف الصدقة : منها التبسم في وجه الأخ وعزل الشوكة أو الحجر عن طريق الناس وإسماع الأصم والأبكم حتى يفهم وإرشاد الأعمى الطريق والسعي في حاجة الملهوف ونفقة الرجل على أهله بل كل ما هو داخل في لفظة " المعروف " يعتبر صدقة من الصدقات إما على النفس أو على المجتمع

ثم تتضح سعة فضل الله تعالى على عباده حينما رتّب الأجر والثواب على ما يمارسه الإنسان في يومه وليلته مما هو مقتضى فطرته وطبيعته وذلك إذا أخلص فيه النية لربه واحتسب  الأجر والثواب فبيّن النبي صل الله عليه وسلم أن المرء إذا أتى أهله ونوى بذلك إعفاف نفسه وأهله عن الحرام والوفاء بحق زوجته وطلب الذرية الصالحة التي تكون ذخرا له بعد موته فإنه يؤجر على هذه النيّة

وهكذا يتسع مفهوم الصدقة ليشمل العادات التي يخلص أصحابها في نياتهم فهي دعوة إلى احتساب الأجر عند كل عمل واستحضار النية الصالحة عند ممارسة الحياة اليوميّة

                                                                   الحديث السابع والعشرون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين اثنين صدقة وتعين الرجل في دابّته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) رواه البخاري ومسلم

الشرح

سبق وأن بيّنا في مقال سابق أن للصدقة مفهوما واسعا لا يقتصر على بذل المال وإنفاقه في أوجه البرّ والخير وأنه يشمل كثيرا من الطاعات والعبادات التي تبرهن على صدق صاحبها في عبوديته لربّه تبارك وتعالى ( والصدقة برهان ) كما وضّحنا أن من الصدقة ما يكون نفعها قاصرا على العبد ومنها ما يكون نفعها متعدّ إلى الذين من حوله وفي الحديث الذي بين يدينا أتى التركيز على تلك الأعمال التي يعمّ خيرها على الجميع فيتحقّق بها الائتلاف بين لبنات الأمة وتجتمع القلوب على كلمة سواء ومحبة دائمة
وهنا يبتديء النبي صل الله عليه وسلم حديثه بتذكير المؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عزوجل على الناس فيقول : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ) إنه تذكير بعظمة الله وقدرته على خلق الإنسان والإبداع في تركيبه وتنظيم عمل أعضائه على نحو تعجز عنه طاقات البشر وإمكاناتهم وقد جاء التذكير الرباني بهذه النعمة في عدة مواضع من كتاب الله يقول الله عزوجل : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } ( النحل : 78 ) ويقول أيضا : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك } ( الانفطار : 6 – 8 )
وهذه النعمة العظيمة تتطلب من الإنسان شكرا لها وهذا الشكر سببٌ لمباركة هذه النعم ودوامها
وقد يظن البعض أن شكر النعم يكون باللسان فقط والحقيقة أن هذا لا يكفي نعم : الشكر باللسان أمر مطلوب شرعا ولكن ينبغي أن يضمّ إليه الشكر بالعمل فيحقّق بذلك أعلى درجات الشكر للخالق وحين نستعرض الصور التي وردت في الحديث الذي نتناوله نجد أكثرها يدخل في باب الشكر بالعمل
فالعدل بين المتخاصمين شكر على نعمة اللسان الذي نطق بالحق وشكر على نعمة العقل الذي أعان العبد على اختيار الحق والقضاء به وشكر على نعمة الهداية والتوفيق التي أعانت على الإصلاح بين المتخاصمين ولو مضينا في ذكر هذه النعم فلن نحصيها عددا وحسبنا أن نعلم أن هذا العمل الخيّر هو من أفضل القربات إلى الله عزوجل كما أنه سبب تلتئم به المشاحنات التي تحصل بين الناس فهو إذا صدقة على المجتمع المسلم
والصورة التالية التي ذُكرت في الحديث : ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة ) إنّه مثال حيّ على قضية التعاون على البرّ والتقوى ووجه من وجوه التكافل الإنساني لاسيما وأن الفرد بطبيعته لا يستطيع أن ينفرد بقضاء شؤونه كلها بل لابد له من الاستعانة بغيره وهذه سنة الله في خلقه أن جعل الناس يتخذون بعضهم بعضا سخريّا فإذا قام كل فرد بإعانة أخيه وتوفير حاجته انتشرت المحبّة بين المؤمنين
وأما قوله صل الله عليه وسلم : ( والكلمة الطيبة صدقة ) : فهو حديث عن صدقة من أعظم الصدقات إنها الكلمة الطيبة فكم كان للكلمة الطيبة من أثر واضح على كثير من الناس ولكم تناهى إلى أسماعنا من قصص في القديم والحديث تدل على أثر الكلمة الطيبة يروي أحد السلف قصته فيقول : " كنت غلاما حسن الصوت جيّد الضرب بالطنبور فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنّيهم فمر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فدخل فضرب البساط وكسر الطنبور ثم قال : لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت!!  ثم مضى فقلت لأصحابي : من هذا ؟ قالوا : هذا عبدالله بن مسعود فألقى الله في نفسي التوبة فسعيت أبكي وأخذتُ بثوبه فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى وقال لي : مرحبا بمن أحبه الله " فلك أن تتخيّل أن كل عمل عمله هذا الرجل إنما هو في ميزان حسنات عبدالله بن مسعود رضي الله عنه والسبب في ذلك : كلمة طيبة وافقت ساعة هداية
وللكلمة الطيبة وجوه متعددة وصور متنوعة فهي الذكر لله عزوجل وهي الشفاعة الحسنة التي تقضي للناس حوائجهم وهي التسلية للمصاب لتخفف عنه بلاءه وهي الموعظة الصادقة التي ترشد العباد إلى ربهم وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي كل ما يُسرّ بها السامع وما يجمع القلوب ويؤلفها
ثم يأتي الحث على حضور الصلوات في المساجد لإدراك الخير وتحصيل الأجر وقد ورد في فضل ذلك الكثير من الأحاديث فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) وقال أيضا : ( من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح ) متفق عليه
وأما قوله صل الله عليه وسلم : ( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) ففيه إشارة إلى أن جميع الأعمال الصالحة التي تصدر عن العبد تحقق معنى الشكر مهما كان هذا العمل صغيرا في نظر صاحبه دقيقا في مقياس الخلق وفي هذا دلالة على عظم هذا الدين وشموليته

                                                                   الحديث الثامن والعشرون

عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) رواه مسلم

وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صل الله عليه وسلم فقال : ( جئت تسأل عن البرّ ؟ ) قلت : نعم فقال : ( استفت قلبك البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون ) حديث حسن رُويناه في مسندي الإمامين : أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن

الشرح

تكمن عظمة هذا الدين في تشريعاته الدقيقة التي تنظم حياة الناس وتعالج مشكلاتهم ومن طبيعة هذا المنهج الرباني أنه يشتمل على قواعد وأسس تحدد موقف الناس تجاه كل ما هو موجود في الحياة فمن جهة : أباح الله للناس الطيبات وعرفهم بكل ما هو خير لهم وفي المقابل : حرّم عليهم الخبائث ونهاهم عن الاقتراب منها وجعل لهم من الخير ما يغنيهم عن الحرام

وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين باتباع الشريعة والتزام أحكامها فإن أول هذا الطريق ولبّه : تمييز ما يحبه الله من غيره ومعرفة المعيار الدقيق الواضح في ذلك وفي ظل هذه الحاجة : أورد الإمام النووي هذين الحديثين الذين اشتملا على تعريف البر والإثم وتوضيح علامات كلٍ منهما

فأما البر : فهي اللفظة الجامعة التي ينطوي تحتها كل أفعال الخير وخصاله وجاء تفسيره في الحديث الأول بأنه حسن الخلق وعُبّر عنه في حديث وابصة بأنه ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب وهذا الاختلاف في تفسيره لبيان أنواعه

فالبرّ مع الخَلْق إنما يكون بالإحسان في معاملتهم وذلك قوله : ( البرّ حسن الخلق ) وحسن الخلق هو بذل الندى وكف الأذى والعفو عن المسيء والتواصل معهم بالمعروف كما قال ابن عمر رضي الله عنه : " البرّ شيء هيّن : وجه طليق وكلام ليّن "

وأما البر مع الخالق فهو يشمل جميع أنواع الطاعات الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى في كتابه : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } ( البقرة : 177 ) فيُطلق على العبد بأنه من الأبرار إذا امتثل تلك الأوامر ووقف عند حدود الله وشرعه

ثم عرّف النبي صل الله عليه وسلم الإثم بقوله : ( والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) فجعل للإثم علامتين : علامة ظاهرة وعلامة باطنة

فأما العلامة الباطنة : فهي ما يشعر به المرء من قلق واضطراب في نفسه عند ممارسة هذا الفعل وما يحصل له من التردد في ارتكابه فهذا دليل على أنه إثم في الغالب

وعلامته الظاهرية : أن تكره أن يطلع على هذا الفعل الأفاضل من الناس والصالحون منهم بحيث يكون الباعث على هذه الكراهية الدين لامجرّد الكراهية العادية وفي هذا المعنى يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ "

وإرجاع الأمر إلى طمأنينة النفس أو اضطرابها يدل على أن الله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على السكون إلى الحق والطمأنينة إليه وتلك الحساسية المرهفة والنظرة الدقيقة إنما هي للقلوب المؤمنة التي لم تطمسها ظلمات المعصية ورغبات النفس الأمارة بالسوء ولكن هل كل ما حاك في الصدر وتردد في النفس يجب طرحه والابتعاد عنه ؟ وهل يأثم من عمل به أم أن المسألة فيها تفصيل ؟

إن هذه المسألة لها ثلاث حالات وبيانها فيما يلي :

الحالة الأولى : إذا حاك في النفس أن أمرا ما منكر وإثم ثم جاءت الفتوى المبنيّة على الأدلة من الكتاب والسنة بأنه إثم فهذا الأمر منكر وإثم لا شك في ذلك

الحالة الثانية : إذا حاك في الصدر أن هذا الأمر إثم وجاءت الفتوى بأنه جائز لكن كانت تلك الفتوى غير مبنيّة على دليل واضح من الكتاب أو السنة فإن من الورع أن يترك الإنسان هذا الأمر وهذا هو معنى قوله صل الله عليه وسلم : ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) أي : حتى وإن رخّصوا لك في هذا الفعل فإن من الورع تركه لأجل ما حاك في الصدر لكن إن كانت الفتوى بأن ذلك الأمر جائز مبنية على أدلة واضحة فيسع الإنسان ترك هذا الأمر لأجل الورع لكن لا يفتي هو بتحريمه أو يلزم الناس بتركه

وقد تكون الفتوى بأن ذلك الأمر ليس جائزا فحسب بل هو واجب من الواجبات وحينئذٍ لا يسع المسلم إلا ترك ما حاك في صدره والتزام هذا الواجب ويكون ما حاك في الصدر حينئذٍ من وسوسة الشيطان وكيده ولهذا لما أمر النبي صل الله عليه وسلمالصحابة في صلح الحديبية بأن يحلّوا من إحرامهم ويحلقوا ترددوا في ذلك ابتداءً وحاك في صدورهم عدم القيام بذلك لكن لم يكن لهم من طاعة الله ورسوله بد فتركوا ما في نفوسهم والتزموا أمر نبيهم صل الله عليه وسلم

ومثل ذلك إذا كان الإنسان موسوسا يظن ويشكّ في كلّ أمر أنّه منكر ومحرّم فإنه حينئذٍ لا يلتفت إلى الوساوس والأوهام بل يلتزم قول أهل العلم وفتواهم

الحالة الثالثة : إذا لم يكن في الصدر شك أو ريبة أو اضطراب في أمرٍ ما فالواجب حينئذٍ أن يتّبع الإنسان قول أهل العلم فيما يحلّ ويحرم عملا بقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( الأنبياء : 7 )

إن تعامل الإنسان المسلم مع ما يمر به من المسائل على هذا النحو ليدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين فقد حرص على إذكاء معاني المراقبة لله في كل الأحوال وتنمية وازع الورع في النفس البشرية وبذك يتحقق معنى الإحسان في عبادة الله تعالى

                                                                   الحديث التاسع والعشرون

عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صل الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح

الشرح

خلال ثلاث وعشرين سنة لم يدّخر النبي صل الله عليه وسلم جهدا في تربية الناس وإرشادهم فكانت حياته صل الله عليه وسلم هداية للناس ونورا للأمة يضيء لهم معالم الطريق ويبين لهم عقبات المسير وصعوباته

لقد ظل هذا النبي الكريم على هذا المنوال طيلة حياته حتى جاء ذلك اليوم الذي نزل عليه قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } (النصر : 1 - 3 ) حينها أدرك دنوّ أجله وازداد يقينا بذلك حينما خيّره الله بين البقاء في الدنيا والانتقال للدار الآخره وتكاثرت الإرهاصات الدالّة على قرب لحوقه بربّه فأدركته الشفقة على أمته من بعده وأراد أن يعظهم موعظة نافعة ووصية جامعة تعطيهم منهاجا متكاملا للتعامل مع ما سيمرّ بهم من فتن وما قد يبتلون به من محن فتكون هذه الوصية لهم بمثابة طوق النجاة في بحر الحياة الخِضم

وكان لهذه الموعظة العظيمة أكبر الأثر في تلك النفوس الكريمة والمعادن الأصيلة لقد استشعروا في هذه الوصية قرب فراق نبيهم للدنيا ولذلك ذرفت عيونهم وخفقت قلوبهم وأحسوا بعظم الموقف مما جعلهم يقولون : " يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا "

لقد طلبوا منه وصية تكفيهم من بعده وتكفل لهم البقاء على الجادّة وصحة المسير فجاءتهم الوصية النبوية بتقوى الله فإنها جماع كل خير وملاك كل أمر وفيها النجاة لمن أراد في الدنيا والآخرة

ثم أتبع النبي صل الله عليه وسلم هذا الأمر ببيان حقوق الإمام التي كفلها الشرع فقال : (.. والسمع والطاعة - أي : للأمير - وإن تأمر عليكم عبد ) فالسمع والطاعة حقّان من حقوق الإمام الشرعي كما قال الله عزوجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( النساء : 59 ) وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صل الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : ( يا أيها الناس اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وأن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل ) رواه أحمد وأصله في البخاري وغيرها من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك

وعلى الرغم من دخول السمع والطاعة للإمام في باب التقوى إلا أن النبي صل الله عليه وسلم أفرده بالذكر تأكيدا على أهميته وعظم شأنه وخطره

لكن ثمة أمر ينبغي أن نلقي الضوء عليه وهو أن هذه الطاعة التي تلزم للإمام الشرعي مشروطة بأن تكون موافقة لأحكام الشرعية وليست مستقلة بنفسها فإذا تعارض أمره مع شرع الله ورسوله فلا تجب طاعته في ذلك ومما يدل على ذلك قول النبي صل الله عليه وسلم : ( لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف ) رواه البخاري ومسلم

وقد ذكر العلماء في قوله صل الله عليه وسلم : ( وإن تأمّر عليكم عبد ) أمران الأول : أن ذلك من باب الإخبار بالأمور الغيبية حين تُسند الولاية إلى غير أهلها وتوضع في غير موضعها ، فهنا يجب له السمع والطاعة درءا لحدوث الفتن والثاني : أن ذكر النبي صل الله عليه وسلم لهذا الأمر جاء من باب ضرب المثل وذلك كقوله في الحديث الآخر : ( من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة ) رواه ابن ماجة ومفحص القطاة أقل من أن يتسع لفرد وأصغر من أن يكون مسجدا

ثم أخبر النبي صل الله عليه وسلم عن اختلاف أمته من بعده وكيفية النجاة من هذا الاختلاف لقد قال : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) إنها إشارة إلى ما سيؤول إليه أمر الأمة من تفرّق يوهن قوتها وابتعاد عن الهدى والحق فوصف الداء وبيّن الدواء وأرشدها إلى التمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين من بعده الذين منّ الله عليهم بالهداية ومعرفة الحق والاستقامة على المنهاج النبوي حتى صار عصرهم أنموذجا رفيعا يُقتدى به

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم تأكيد النبي صل الله عليه وسلم الله على التزام هديهم عندما قال : ( عضّوا عليها بالنواجذ ) والنواجذ هي آخر الأضراس فهي إذاً كناية عن شدة التمسّك وعدم الحيدة عن هذا الطريق

إن هذه النصيحة النبوية لتحمل في ثناياها التصوّر الواضح والتأصيل الشرعي الصحيح الذي ينبغي على المسلم أن ينتهجه في حياته وبذلك تزداد الحاجة إلى تأمل هذا الحديث واستخراج معانيه العظيمة

                                                                   الحديث الثلاثون

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : ( لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه : تعبد الله لا تُشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت ) ثم قال له : ( ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنّة والصدقة تطفيء الخطيئة كما يُطفيء الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ) ثم تلا : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } حتى بلغ : { يعملون } ( السجدة : 16 – 17 ) ثم قال : ( ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ) قلت : بلى يا رسول الله قال : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ) ثم قال : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) قلت : بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه ثم قال : ( كفّ عليك هذا ) قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ؟ ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح

الشرح

امتاز الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه على غيره من أقرانه بما آتاه الله من الفهم الثاقب لتعاليم هذا الدين بل بلغ رتبة لم يبلغها أحد في هذا المجال وقد شهد له النبي صل الله عليه وسلم بعلمه فقال عنه : ( ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) رواه أحمد

وهذا العلم الذي حباه الله به قد أثمر في قلبه الشوق إلى لقاء ربه ، ودخول جنات النعيم وذلك هو ما أهمّ معاذا وأسهره الليالي ولقد نقلت لنا كتب السير هذا المشهد ولنقصّه كما رواه لنا معاذ نفسه حيث قال : " لما رأيت خلوة رسول الله صل الله عليه وسلم إليه قلت له : يا رسول الله ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني فقال نبي الله صل الله عليه وسلم : ( سلني عمّا شئت ) قال : يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة - وفي رواية : ويبعدني من النار -  لا أسألك عن شيء غيرها "

لقد سأل معاذ رضي الله عنه هذا السؤال وهو يعلم أن الجنة لا تنال بالأماني ولكن بالجدّ والعمل الصالح وقد تكفّل الله تعالى بتيسير الطريق وتذليل عقباته لمن أراد أن يسلكه حقا فإذا أقبل العبد على ربّه يسر له سبل مرضاته وأعانه على طاعته وهذا هو مقتضى قوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } ( محمد: 17 ) وكذلك قوله : { فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى } ( الليل : 5 - 7 )

وأصل الأعمال الصالحة : الإتيان بأركان الإسلام فتوحيد الله جلّ وعلا هو أساس قبول الأعمال والصلاة والزكاة والحج : من أركان الإسلام التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يقوم بها وقد تم بسط الكلام عنها في مواضع سابقة تغني عن إعادتها هنا

وبعد أن بيّن النبي صل الله عليه وسلم أن دخول الجنّة مترتّب على الإتيان بتلك الأركان أراد أن يكافيء معاذا رضي الله عنه على سؤاله العظيم فدلّه على أبواب أخرى للخير

فمن تلك الأبواب : صيام التطوّع كما جاء في هذا الحديث : ( والصوم جنّة ) والجنة هي ما تحصل به الوقاية فالصيام جنة للعبد من المعاصي في الدنيا وهو جنّة للعبد من النار يوم القيامة لأن العبد إذا صام لله تعالى يوما : باعده الله من النار سبعين خريفا كما جاء في الحديث ولهذا يستحبّ للعبد أن يستزيد من صيام النوافل كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر إلى غير ذلك مما ورد في السنة

ومن أبواب الخير : صدقة التطوّع وفضل هذه الصدقة عظيم فإنها سبب لتكفير الذنوب وإزالتها وقد شبّه النبي صل الله عليه وسلم تكفيرها للذنوب بالماء إذا صُبّ على النار فإنه يطفئها ويُذهب لهيبها وليس ذلك فحسب بل إنها تفيد صاحبها في عرصات يوم القيامة وتخفف عنه حرّ ذلك اليوم روى الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس ) والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة معلومة

أما ثالث أبواب الخير التي دلّ عليه الحديث فهو قيام الليل إنه شرف المؤمن وسلوة المحزون وخلوة المشتاق إلى ربّه وما بالك بعبد يؤثر لذة مناجاة ربّه ودعائه على النوم في الفراش الدافيء ولذلك يقول النبي صل الله عليه وسلم : ( عجب ربنا من رجلين – أحدهما - : رجل ثار عن وطائه ولحافه ومن بين أهله وحيّه إلى صلاته فيقول ربنا : أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه ومن بين حيّه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ) رواه أحمد في مسنده

وكأن النبي صل الله عليه وسلم لمح في عينيّ معاذ رضي الله عنه الرغبة في معرفة المزيد فأتـى له بمثال يبيّن حقيقة هذا الدين ويصوّره وقدّم بين يدي هذا المثال تشويقا فقال : ( ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ )

لقد شبّه النبي صل الله عليه وسلم الإسلام بالرأس لأن الرأس إذا ذهب : ذهبت معه الحياة فكذلك إذا ذهب إسلام المرء : ذهب دينه

وفي قوله : ( وعموده الصلاة ) تشبيه للصلاة بالعمود الذي لا تقوم الخيمة إلا به ووجه ذلك : أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام العملية التي يتصل بها العبد بربّه وهي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر وكذلك فإنها من أوضح الشعائر التي تميّز المسلم عن غيره لهذا حظيت بهذه المنزلة وتلك المكانة

ولما كان الجهاد سببا في ظهور الإسلام وعاملا من عوامل انتشار هذا الدين شبّه النبي صل الله عليه وسلم مكانته بذروة سنام الجمل ولئن كان الجمل متميزا بذروة سنامه فإن هذا الدين متميز بالجهاد ولا يخفى على المسلم فضل الجهاد وأجره وحسبنا أن نستحضر حديث النبي صل الله عليه وسلم : ( مقام أحدكم يعني في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة ؟ جاهدوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ) رواه أحمد

ثم أرشد النبي صل الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى ما يحصل به إحكام الدين وإتقانه ليجعل ذلك خاتمة وصيته له لقد أرشده إلى مراقبة لسانه والمحافظة على منطقه وما ذلك إلا لشديد أثره وخطر أمره كيف لا ؟ وهو الباب إلى كثير من المعاصي فهو السبيل إلى كلمة الكفر والقول على الله بغير علم وشهادة الزور والكذب والغيبة والنميمة فلا ينبغي التهاون في شأن هذه الجارحة أو التقليل من خطورتها

فحفظ اللسان هو عنوان الفلاح وطريق السلامة من الإثم فالنبي صل الله عليه وسلم بتحذيره من خطر اللسان يدعونا إلى تسخيره في مجالات الخير والمعروف وميادين الذكر والإصلاح حتى يُكتب للمرء النجاة وذلك هو  غاية ما يتمناه المرء

ليست هناك تعليقات