الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه

نسب عثمان رضى الله عنه
هو [‏هو عثمان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب‏ يجتمع نسبه مع الرسول صل اللَّه عليه وسلم في الجد الخامس من جهة أبيه‏]‏‏ عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فهو قرشي أموي يجتمع هو والنبي صل اللَّه عليه وسلم في عبد مناف وهو ثالث الخلفاء الراشدين‏‏
ولد بالطائف بعد الفيل بست سنين على الصحيح ‏(‏سنة 576 م‏)‏‏‏
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب عمة الرسول صل اللَّه عليه وسلم

كنيته رضي الله عنه
يكنى بأبي عبد اللَّه وأبي عمرو كني أولًا بابنه عبد اللَّه ابن زوجته رقية بنت النبي صل اللَّه عليه وسلم توفي عبد اللَّه سنة أربع من الهجرة بالغًا من العمر ست سنين‏
ويقال لعثمان رضي اللَّه عنه ‏:‏ ‏(‏ذو النورين‏)‏ لأنه تزوج رقية وأم كلثوم ابنتيَّ النبي صل اللَّه عليه وسلم ولا يعرف أحد تزوج بنتيَّ نبي غيره
أولاده وأزواجه
عبد اللَّه وأمه رقية بنت النبي صل اللَّه عليه وسلم
عبد اللَّه الأصغر وأمه فاختة بنت غزوان بن جابر
عمرو وأمه أم عمرو بنت جُنْدب
خالد وأمه أم عمرو بنت جُنْدب‏
أُبان وأمه أم عمرو بنت جُنْدب‏
عمر وأمه أم عمرو بنت جُنْدب‏
مريم وأمها أم عمرو بنت جُنْدَب
الوليد وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس
سعيد وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس
10ـ أم سعيد وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس
11ـ عبد الملك وأمه أم البنين بنت عُيينة بن حصن بن حذيفة
12ـ عائشة وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة‏‏
13ـ أم أبان وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة
14ـ أم عمرو وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة‏
15ـ مريم وأمها نائلة بنت الفُرَافِصَة ابن الأحوص‏‏
16ـ أم البنين وأمها أم ولد وهي التي كانت عند عبد اللَّه بن يزيد بن أبي سفيان
فأولاده ستة عشر‏:‏ تسعة ذكور وسبع إناث وزوجاته تسع ولم تذكر هنا أم كلثوم لأنها لم تلد وقتل عثمان وعنده رملة ونائلة وأم البنين وفاختة غير أنه طلق أم البنين وهو محصور

زوجته رقية بنت النبي صل اللَّه عليه وسلم
رقية بنت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وأمها خديجة وكان رسول اللَّه قد زوَّجها من عتبة بن أبي لهب وزوَّج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت‏ :‏ ‏{‏تبت‏}‏ ‏[‏المسد ‏:‏ 1‏] قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية ‏{‏حمالة الحطب‏}‏ ‏[‏المسد ‏:‏ 4‏]‏‏ :‏ فارقا ابنتَي محمد ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من اللَّه تعالى لهما وهو انًا لابني أبي لهب فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة وهاجرت معه إلى الحبشة وولدت له هناك ولدًا فسماه ‏:‏ ‏"‏عبد اللَّه‏"‏ وكان عثمان يُكنى به ‏ فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فورم وجهه ومرض ومات‏ وكان موته سنة أربع وصلى عليه رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ونزل أبوه عثمان حفرته‏ ورقية أكبر من أم كلثوم‏ ولما سار رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم إلى بدر كانت ابنته رقية مريضة فتخلَّف عليها عثمان بأمر رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فتوفيت يوم وصول زيد بن حارثة ‏[‏هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي أبو أسامة اختطف في الجاهلية صغيرًا واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي صل اللَّه عليه وسلم قبل الإسلام وأعتقه وزوَّجه بنت عمته واستمر الناس يسمونه زيد بن محمد حتى نزلت آية ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏ :‏ 5‏]‏ وهو من أقدم الصحابة إسلامًا كان النبي صل اللَّه عليه وسلم لا يبعثه في سرية إلا أمَّره عليها وكان يحبِّه ويقدِّمه وجعل له الإمارة في غزوة مؤتة فاستشهد فيها سنة 8 هجرية  وكانت قد أصابتها الحصبة فماتت بها‏

زوجته أم كلثوم بنت النبي صل اللَّه عليه وسلم
بنت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وأمها خديجة وهي أصغر من أختها رقية زوَّجها النبي صل اللَّه عليه وسلم من عثمان بعد وفاة رقية وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة ولم تلد منه ولدًا وتوفيت سنة تسع وصلى عليها رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ونزل في قبرها عليّ والفضل ‏[‏هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو الفضل القرشي المكي من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام جدّ الخلفاء العباسيين قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في وصفه‏:‏ ‏(‏أجود قريش كفًا وأوصلها هذا بقية آبائي‏)‏ وهو عمه كان محسنًا لقومه سديد الرأي واسع العقل مولعًا بإعتاق العبيد كانت له سقاية الحج وعمارة البيت الحرام أي لا يدع أحدًا يسبّ أحدًا في المسجد ولا يقول فيه هجرًا‏‏ أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه أقام بمكة يكتب إلى رسول اللَّه أخبار المشركين‏‏ ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس شهد فتح مكة وعمي في آخر عمره وكان إذا مر بعمر في أيام خلافته ترجَّل عمر إجلالًا له وكذلك عثمان عمَّر طويلًا ولد سنة 51 ق‏بل‏ الهجرة‏ وتوفي سنة 32 هجرية ‏‏ وأسامة بن زيد ‏ وقيل‏ :‏ إن أبا طلحة الأنصاري استأذن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في أن ينزل معهم فأذن له وقال ‏:‏ ‏(‏لو أن لنا ثالثة لزوجنا عثمان بها‏)‏‏
وروى سعيد بن ‏ المسيب أن النبي صل اللَّه عليه وسلم رأى عثمان بعد وفاة رقية مهمومًا لهفانا‏ فقال له‏ :‏ ‏(‏ما لي أراك مهمومًا‏)‏‏؟‏ فقال ‏:‏ يا رسول اللَّه وهل دخل على أحد ما دخل عليَّ ماتت ابنة رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم التي كانت عندي وانقطع ظهري وانقطع الصهر بيني وبينك‏ فبينما هو يحاوره إذ قال النبي صل اللَّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن اللَّه عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها‏)‏ ‏[‏ورد في الجامع الكبير المخطوط ج 2 ‏(‏36200‏)‏‏]‏‏‏ فزوجه إياها‏

صفته رضي الله عنه
كان جميلًا وكان ربعة ـ لا بالقصير ولا بالطويل ـ حسن الوجه رقيق البشرة كبير اللحية أسمر اللون كثير الشعر ضخم الكراديس ‏[‏الكراديس‏:‏ جمع كردوسة كل عظمين التقيا في مفصل وقيل رؤوس العظام‏]‏ بعيد ما بين المنكبين له جُمَّة ‏[‏جُمَّة‏ :‏ مجتمع شعر الرأس إذا تدلَّى من الرأس إلى شحمة الأذن]‏ أسفل من أذنيه جذل الساقين طويل الذراعين شعره قد كسا ذراعيه‏ أقنى ‏(‏بيِّن القنا‏)‏ بوجهه نكتات جدري وكان يصفر لحيته ويشد أسنانه بالذهب
وكان رضي اللَّه عنه أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمور لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته وكان شديد الحياء ومن كبار التجار‏
أخبر سعيد بن العاص أن عائشة رضي اللَّه عنها  وعثمان حدثاه‏ :‏ أن أبا بكر استأذن النبي صل اللَّه عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن له وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف‏ ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف‏ ثم استأذن عليه عثمان فجلس وقال لعائشة‏ :‏ ‏(‏اجمعي عليك ثيابك‏)‏ فقضى إليه حاجته ثم انصرف‏‏ قالت عائشة‏ :‏ يا رسول اللَّه لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان‏!‏ قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال لا يُبلغ إليّ حاجته‏)‏ ‏[‏رواه مسلم وأحمد ‏‏]‏‏ وقال الليث‏ :‏ قال جماعة من الناس‏ :‏ ‏(‏ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة‏)‏ ‏[‏رواه مسلم وأحمد]‏‏
لا يوقظ نائمًا من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه فيناوله وضوءه وكان يصوم الدهر ‏ ويلي وضوء الليل بنفسه‏ فقيل له‏ :‏ لو أمرت بعض الخدم فكفوك فقال ‏:‏ لا الليل لهم يستريحون فيه‏‏ وكان ليَّن العريكة كثير الإحسان والحلم‏‏ قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏أصدق أمتي حياءً عثمان‏)‏ ‏[‏رواه ابن ماجه وأحمد ]‏‏ وهو أحد الستة الذين توفي رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وهو عنهم راضٍ وقال عن نفسه قبل قتله‏ :‏ ‏"‏واللَّه ما زنيت في جاهلية وإسلام قط‏"

لباسه رضي الله عنه
رئي وهو على بغلة عليه ثوبان أصفران له غديرتان ورئي وهو يبني الزوراء ‏[‏الزوراء‏ :‏ دار عثمان بالمدينة‏]‏‏ على بغلة شهباء مصفِّرًا لحيته وخطب وعليه خميصة ‏[‏الخميصة‏ :‏ كساء أسود له علمان فإن لم يكن معلمًا فليس بخميصة‏]‏‏ سوداء وهو مخضوب بحناء ولبس ملاءة صفراء وثوبين ممصرين وبردًا يمانيًا ثمنه مائة درهم وتختم في اليسار وكان ينام في المسجد متوسدًا رداءه‏
إسلامه رضي الله عنه
أسلم رضي اللَّه عنه في أول الإسلام قبل دخول رسول اللَّه دار الأرقم وكانت سنِّه قد تجاوزت الثلاثين دعاه أبو بكر إلى الإسلام فأسلم، ولما عرض أبو بكر عليه الإسلام قال له‏ :‏ ويحك يا عثمان واللَّه إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل هذه الأوثان التي يعبدها قومك أليست حجارة صماء لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع‏؟‏ فقال‏:‏ بلى واللَّه إنها كذلك قال أبو بكر‏ :‏ هذا محمد بن عبد اللَّه قد بعثه اللَّه برسالته إلى جميع خلقه فهل لك أن تأتيه وتسمع منه‏؟‏ فقال‏ :‏ نعم‏
وفي الحال مرَّ رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فقال ‏:‏ ‏(‏يا عثمان أجب اللَّه إلى جنته فإني رسول اللَّه إليك وإلى جميع خلقه‏)‏‏ قال ‏:‏ فواللَّه ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمد رسول عبده ورسوله ثم لم ألبث أن تزوجت رقية‏ وكان يقال‏ :‏ أحسن زوجين رآهما إنسان رقية وعثمان‏‏
وفي طبقات ابن سعد‏ :‏ قال عثمان ‏:‏ يا رسول اللَّه قدمت حديثًا من الشام فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا منادٍ ينادينا‏ :‏ أيها النيام هبّوا فإن أحمد قد خرج بمكة فقدمنا فسمعنا بك‏
وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى‏ :‏
هدى اللَّه عثمان الصفيَّ بقوله    *** فأرشده واللَّه يهدي إلى الحق
فبايع بالرأي السديد محمدًا       *** وكان ابن أروى لا يصد عن الحق
وأنكحه المبعوث إحدى بناته     *** فكان كبدر مازج الشمس في الأفق
فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي*** فأنت أمين اللَّه أرسلت في الخلق
لما أسلم عثمان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا وقال‏ :‏ أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث‏!‏ واللَّه لا أخليك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين‏‏ فقال‏ :‏ واللَّه لا أدعه أبدًا‏ فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه
وفي غداة اليوم الذي أسلم فيه عثمان جاء أبو بكر بعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي أبو السائب وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي مسلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا وكانوا مع من اجتمع مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلًا‏
وأسلمت أخت عثمان آمنة بنت عفان وأسلم أخوته لأمه الوليد وخالد وعمارة أسلموا يوم الفتح وأم كلثوم وبنو عقبة بن أبي معيط ابن عمرو بن أمية

هجرته رضي الله عنه
هاجر عثمان إلى أرض الحبشة فارًا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فكان أول مهاجر إليها ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة‏ عن أنس قال‏ :‏ أول من هاجر إلى الحبشة عثمان وخرجت معه ابنة رسول اللَّه ـصل اللَّه عليه وسلم فأبطأ على رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم خبرهما فجعل يتوكف الخبر فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة فسألها فقالت‏ :‏ رأيتها فقال‏ :‏ ‏(‏على أيّ حال رأيتها‏؟‏‏)‏ قالت‏ :‏ رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وهو يسوقها فقال النبي صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏صحبهما اللَّه إن كان عثمان لأول من هاجر إلى اللَّه عز وجل بعد لوط‏)‏ ‏[‏رواه ابن أبي عاصم ‏]‏‏

 تبشيره بالجنة رضي الله عنه
كان عثمان رضي اللَّه عنه أحد العشرة الذين شهد لهم رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بالجنة‏
عن أبي موسى الأشعري ‏ قال ‏:‏ كنت مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في حديقة بني فلان والباب علينا ‏مغلق إذ استفتح رجل فقال النبي صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏يا عبد اللَّه بن قيس قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة‏)‏ فقمت ففتحت الباب فإذا أنا بأبي بكر الصدِّيق فأخبرته بما قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فحمد اللَّه ودخل وقعد ثم أغلقت الباب فجعل النبي صل اللَّه عليه وسلم ينكت بعود في الأرض فاستفتح آخر فقال‏ :‏ يا عبد اللَّه بن قيس قم فافتح له الباب وبشَّره بالجنة فقمت ففتحت فإذا أنا بعمر بن الخطاب فأخبرته بما قال النبي صل اللَّه عليه وسلم فحمد اللَّه ودخل فسلم وقعد وأغلقت الباب فجعل النبي صل اللَّه عليه وسلم ينكت بذلك العود في الأرض إذ استفتح الثالث الباب فقال النبي صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏يا عبد اللَّه بن قيس قم فافتح الباب له وبشره بالجنة على بلوى تكون‏)‏ ‏[‏رواه ابن أبي عاصم والبغوي ‏]‏ فقمت ففتحت الباب فإذا أنا بعثمان بن عفان فأخبرته بما قال النبي صل اللَّه عليه وسلم فقال‏ :‏ ‏(‏اللَّه المستعان وعليه التكلان‏)‏ ثم دخل فسلم وقعد‏‏
وقال صل اللَّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة والآخر لو شئت سميته‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ‏)‏‏
‏[‏ثم سمَّى نفسه وعن سعيد بن زيد أن رجلًا قال له‏ :‏ أحببت عليًا حبًا لم أحبه شيئًا قط‏ قال‏ :‏ ‏(‏أحسنت أحببت رجلًا من أهل الجنة‏)‏‏ قال‏ :‏ وأبغضت عثمان بغضًا لم أبغضه شيئًا قط قال‏:‏ ‏(‏أسأت أبغضت رجلًا من أهل الجنة‏)‏ ثم أنشأ يحدث قال‏ :‏ بينما رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم على حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير قال‏ :‏ ‏(‏اثْبُتْ حِرَاءُ ما عليك إلا نبيُّ أو صدِّيق أو شهيد‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ]
وعن أنس قال‏ :‏ صعد النبي صل اللَّه عليه وسلم أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال‏ :‏ ‏(‏اثبت أحد فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان‏)‏ ‏[‏رواه البخاري وأبو داود وأحمد ‏)‏‏
وعن حسان بن عطية قال‏ :‏ قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏غفر اللَّه لك يا عثمان ما قدَّمتَ وما أخَّرتَ وما أسررتَ وما أعلنتَ وما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏ ‏[‏رواه المتقي الهندي في كتاب كنز العمال ‏(‏32847‏)‏ وابن عدي في الكامل في الضعفاء ‏(‏6‏:‏ 2253‏)‏‏]‏‏ رواه أبو داود في كتاب السنة باب‏:‏ في الخلفاء وابن ماجه في المقدمة باب‏:‏ فضائل أصحاب رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وأحمد في ‏(‏م 1/ص 187‏)‏‏

تخلّفه عن بيعة الرضوان
في الحديبية دعا رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال‏ :‏ يا رسول اللَّه إني أخاف قريشًا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلّك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظَّمًا لحرمته‏
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ‏ الأموي فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلَّغ رسالة رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان ‏ بن حرب بن أمية‏ وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم إليهم‏ :‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال‏ :‏ ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول اللَّه والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل وقيل‏ :‏ إنه دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بإذن رسول اللَّه ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسمائهم وقيل‏ :‏ إن قريشًا احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام وأشاع الناس أنهم قتلوه هو والعشرة الذين معه‏ وعلى كل حال أبطأ عثمان رضي اللَّه عنه عن الرجوع فقلق عليه المسلمون فلما بلغ ذلك الخبر رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم قال‏ :‏ ‏(‏لا نبرح حتى نناجز القوم‏)
ولما لم يكن قتل عثمان رضي اللَّه عنه محققًا بل كان بالإشاعة بايع النبي صل اللَّه عليه وسلمعنه على تقدير حياته‏ وفي ذلك إشارة منه إلى أن عثمان لم يُقتل وإنما بايع القوم أخذًا بثأر عثمان جريًا على ظاهر الإشاعة تثبيتًا وتقوية لأولئك القوم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال‏ :‏ ‏(‏اللَّهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك‏)‏‏
قال تعالى يذكر هذه البيعة‏ :‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّه عَنِ المُؤْمِنين إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏ :‏ 18‏]‏ وبعد أن جاء عثمان رضي اللَّه عنه بايع بنفسه‏

تخلفه عن غزوة بدر
تزوَّج عثمان رضي اللَّه عنه رقية بنت رسول اللَّه بعد النبوة وتوفيت عنده في أيام غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة وكان تأخره عن بدر لتمريضها بإذن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فجاء البشير بنصر المؤمنين يوم دفنوها بالمدينة وضرب رسول اللَّه لعثمان بسهمه وأجره في بدر فكان كمن شهدها أي أنه معدود من البدريين

عثمان قبل الخلافة
كان عثمان رضي اللَّه عنه تاجرًا غنيًا جميل الصورة‏ وقد بادر إلى الإسلام بناء على دعوة أبي بكر الصدَّيق فزوَّجه رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم رقية وهاجر بها إلى الحبشة ثم زوَّجه أم كلثوم بعد وفاتها‏ وكان رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يثق به ويحبه ويكرمه لحيائه ودماثة أخلاقه وحسن عشرته وما كان يبذله من المال لنصرة المسلمين وبشره بالجنة كأبي بكر وعمر وعلي وبقية العشرة وأخبره بأنه سيموت شهيدًا‏
وكان أحد كتاب الوحي لكن لم يكن له في الغزوات حظ كغيره من الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وجعفر وطلحة وخالد بن الوليد وغيرهم فلم يرق دمًا ولم يبارز أحدًا ولم يخرج أميرًا على جيش في إحدى السرايا ولم يثبت في غزوة أحد مع رسول اللَّه واستخلفه رسول اللَّه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان وكان محبوبًا من قريش وكان حليمًا رقيق العواطف كثير الإحسان‏‏ وقد توفي رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وهو عنه راض به وروى عن رسول اللَّه مائة وستة وأربعين حديثًا وكانت العلاقة بيننا وبين أبي يكر وعمر وعليّ على أحسن ما يرام ولم يكن من الخطباء حتى إنه قد ارتج عليه في أول خطبة خطبها وكان أعلم الصحابة بالمناسك حافظًا للقرآن ولم يكن متقشفًا مثل عمر بل كان يأكل اللين من الطعام

خلافة عثمان رضي اللَّه عنه
‏(‏سنة 24 هجرية/ 644 ملادية‏)‏‏ كانت مبايعة عثمان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة 23 هجرية واستقبل الخلافة في المحرم سنة 24 هجرية وقيل لهذه السنة عام الرُّعاف ‏ لأنه كثر فيها الرُّعاف ‏‏(‏الرُّعاف ‏:‏ الدم يخرج من الأنف)
في الناس ولي عثمان الخلافة وعمره 68 عامًا أي أنه كان في سن الشيخوخة ‏ وقد كان عمر رضي اللَّه عنه يخشى أن يميل الخليفة بعده إلى أقاربه ويحابيهم ويحرم ذوي الكفايات فتسوء الحال فقال لعليّ‏ :‏ إن وليت من أمر المؤمنين شيئًا فلا تحملن بني عبد المطلب على رقاب الناس‏‏ وقال لعثمان‏ :‏ يا عثمان إن وليت من أمر المسلمين شيئًا فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس‏‏ وكذلك قال لعبد الرحمن بن عوف‏ :‏ فإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحمل ذوي قرابتك على رقاب الناس‏
أما أبو بكر رضي اللَّه عنه فإنه قال لما اختار عمر للخلافة‏ :‏ ‏(‏أترضون بمن أستخلف عليكم فإني واللَّه ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوه‏) ثم إن عمر احتاط فأوصى الخليفة بعده بأن يبقى عماله سنة وليس في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك ولندع ذلك الآن إلى فرصة أخرى‏
لما بويع عثمان خرج إلى الناس وأراد أن يخطبهم فأُرْتِجَ عليه ثم قال بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه ‏:‏
‏(‏أيها الناس إن أول مركب صعب وإن بعد اليوم أيامًا وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها وما كنا خطباء وسُيعَلّمنا اللَّه‏)‏ لكنه خطبهم خطبة أخرى ذكرها الطبري "‏إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صُبّحتهم أو مُسيّتم‏ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏‏ اعتبروا بمن مضى‏‏ ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم‏ أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلًا‏؟‏ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى اللَّه بها واطلبوا الآخرة فإن اللَّه قد ضرب لها مثلًا والذي هو خير فقال‏ :‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]إلى قوله أملًا ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏ وهذه خطبة كما يراها القارئ في الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها‏
وأول ما فعل عثمان رضي اللَّه عنه بعد البيعة أنه جلس في جانب المسجد ودعا عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب ‏ وكان قد قتل جماعة من الذين تسببوا في قتل أبيه وشاور الأنصار في أمره وأشار عليّ بقتله‏‏ فقال عمرو بن العاص‏ :‏ لا يقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم‏‏ فجعلها عثمان دية واحتملها وقال‏ :‏ أنا وليه‏
وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد اللَّه يقول‏ :‏
ألا يا عبيد اللَّه ما لك مهرب        *** ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دمًا واللَّه في غير حله       *** حرامًا وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل *** أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمة         *** نعم أتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته  *** يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
كان الهرمزان ‏[‏الهُرمُزان‏:‏ هو من أمراء الجيش الفارسي في معركة القادسية سنة 14 هجرية انهزم إلى خوزستان حيث قاوم العرب مقاومة عنيفة‏]‏ من قواد الفرس وقد أسره المسلمون بتستر وأرسلوه إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فلما رأى عمر سأل‏ :‏ أين حرسه وحجابه‏؟‏ قالوا‏ :‏ ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان فقال ‏:‏ ‏"‏ينبغي له أن يكون نبيًا‏"‏ ثم أسلم وفرض له عمر ألفين وأنزله بالمدينة‏‏ وقيل‏ :‏ إن السكين التي قتل بها عمر رؤيت قبل قتله عند الهرمزان فلما بلغ عبيد ‏اللَّه بن عمر ذلك ذهب إليه وقتله فهذا هو الهرمزان المذكور في شعر زياد بن لبيد‏‏ فشكا عبيد اللَّه إلى عثمان زياد بن لبيد فنهى عثمان زيادًا فقال في عثمان‏ :‏
أبا عمرو عبيد اللَّه رهن *** فلا تشكك بقتل الهْرْمزان
أتعفو إذ عفوت بغير حق *** فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زيادًا فنهاه وشذ به‏

ولاية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
‏[‏هو سعد بن أبي وقّاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري من أخوال النبي صل الله عليه وسلم فهو من بني زهرة أهل آمنة بنت وهب أم النبي صل الله عليه وسلم وكان يعتَزْ بهذه الخُوُّولَة أبو إسحاق هو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه وأحد الستة الذين عينهم عمر بن الخطاب للخلافة ويقال له‏ :‏ فارس الإسلام
كان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وولى مكانه المغيرة بن شعبة‏ وقد اتهم سعد بأنه لا يحسن الصلاة وأن الصيد يلهيه ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية‏‏ لكنها تُهم لم تثبت قد أذاعها بعض حساده فأوصى عمر رضي اللَّه عنه الخليفة من بعده أن يستعمل سعدًا وقال‏ :‏ ‏(‏إني لم أعزله عن سوء ولا خيانة‏)‏‏‏ فكان أول عامل بعث به عثمان على الكوفة سعد وعزل المغيرة الذي كان يومئذ بالمدينة‏ وروى الواقدي أن عمر أوصى أن يقر عماله سنة فلما ولي عثمان أقرَّ المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة ثم عزله واستعمل سعد بن أبي وقاص ثم عزله واستعمل الوليد بن عقبة ‏ بن أبي معيط فشهد عليه جماعة عند عثمان بشرب الخمر فعزله ودعا به إلى المدينة فجاء فحدّه وحبسه ولمَّا قُتل عثمان تحوَّل إلى الجزيرة الفراتية فسكنها واعتزل الفتنة بين معاوية وعلي لكنه حرَّض معاوية ورثى عثمان مات سنة 61 هجرية بالرقة :‏ فإن كان ما رواه الواقدي من ذلك فولاية سعد الكوفة من قبل عثمان كانت سنة 25 هجرية

كتب عثمان رضي الله عنه
كتابه إلى عماله‏ :‏ ‏[‏الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 590‏]‏‏
كان أول كتاب كتبه إلى عماله ‏:
‏"‏أما بعد فإن اللَّه أمر الأئمة أن يكونوا رعاة و لم يتقد إليهم أن يكونوا جباة وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة و لم يخلقوا جباة وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء‏‏ ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم مالهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء‏"‏‏

كتابه إلى أمراء الأجناد ‏[‏الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591‏]‏‏
كان أول كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد في الفروج‏ :
‏"‏أما بعد فإنكم حماة المسلمين وذادتهم وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان عن ملأ منا‏‏ ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير اللَّه ما بكم ويستبدل بكم غيركم‏‏ فانظروا كيف تكونون فيما ألزمني اللَّه النظر فيه والقيام عليه‏"‏‏

كتابه إلى عمَّال الخراج‏‏ ‏[‏الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591‏]‏‏
كان أول كتاب كتبه إلى عمَّال الخراج‏ :‏
‏"‏أما بعد فإن اللَّه خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق‏‏ خذوا الحق وأعطوا الحق به‏‏ والأمانة الأمانة ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم‏‏ والوفاء الوفاء ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن اللَّه خصم لمن ظلمهم‏"‏‏

كتابه إلى العامة‏ ‏[‏الطبري تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 591‏]‏‏
وكان كتابه إلى العامة ‏:‏
‏"‏أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالإقتداء والإتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم فإن أمر هذه صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم‏ :‏ تكامل النعم وبلوغ أولادكم من السبايا وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن فإن رسول اللَّه صل الله عليه وسلم
قال ‏:‏ ‏"‏الكفر في العجمة فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا‏

هذه أربعة كتب كتبها عثمان رضي اللَّه عنه في أول خلافته وقد أوصى عماله برعاية شؤون المسلمين والذميين وأن لا يقصروا همهم على جباية الأموال لئلا يرهقوا العباد وينسوا أول واجب عليهم وهو العدل بين الرعية وأمر أمراء الأجناد في الفروج أي الثغور بأن يتبعوا أوامر عمر رضي اللَّه عنه وأن لا يحيدوا عنها‏ ثم أنه شدَّد على عمال الخوارج بأخذ الحق والتمسك بالأمانة والوفاء وأوصى باليتيم والمعاهد خيرًا وهذه كلها من تعاليم الإسلام وفضائله
وعثمان أول خليفة زاد الناس في أعطياتهم مائة وكان عمر يجعل لكل نفس منفوسة ‏[‏منفوسة‏:‏ أي مولودة‏]‏ من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كل يوم وفرض لأزواج رسول اللَّه صل الله عليه وسلم درهمين‏ فقيل له‏ :‏ لو صنعت طعامًا فجمعتهم عليه‏؟‏ فقال‏ :‏ أُشبع الناس في بيوتهم‏ فأقر عثمان الذي كان صنع عمر وزاد فوضع طعام رمضان فقال‏ :‏ للمتعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترّين من الناس‏

عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة وتولية الوليد بن عقبة
لم تطل ولاية سعد على الكوفة فعزله عثمان وولى بعده الوليد بن عقبة والسبب في عزل سعد هو أنه استقرض من عبد اللَّه بن مسعود ‏من بيت المال مالًا فأقرضه فلما تقاضاه لم يتيسر‏ عليه فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد اللَّه بأناس على استخراج المال واستعان سعد بأناس على استنظاره فاقتربوا وبعضهم يلوم بعضًا‏‏ يلوم هؤلاء سعدًا ويلوم هؤلاء عبد اللَّه‏
عن قيس بن أبي حازم قال‏ :‏ كنت جالسًا عند سعد وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة ‏‏ فأتى ابن مسعود سعدًا فقال له‏ :‏ أدِّ المال الذي قِبَلك‏‏ فقال له سعد‏ :‏ ما أراك إلا ستلقى شرًَّا‏‏ هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل‏؟‏‏‏ فقال‏ :‏ أجل واللَّه إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة‏ فقال هاشم‏ :‏ إنكما لصاحبا رسول اللَّه صل الله عليه وسلم ينظر إليكما‏‏ فطرح سعد عودًا كان في يده وكان رجلًا فيه حدة ورفع يديه‏‏ وقال‏ :‏ اللَّهم رب السماوات والأرض‏‏ فقال عبد اللَّه‏ :‏ ويلك قل خيرًا ولا تلعن‏ فقال سعد عند ذلك‏ :‏ أما واللَّه لولا اتقاء اللَّه لدعوت عليك دعوة لا تخطئك‏ فولى عبد اللَّه سريعًا حتى خرج وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة
غضب عثمان رضي اللَّه عنه على سعد وعلى ابن مسعود بسبب هذه المشادة فعزل سعدًا ولم يعزل ابن مسعود بل أقره واستعمل الوليد بن عقبة وكان عاملًا لعمر على ربيعة بالجزيرة فقدم الكوفة فلم يتخذ لداره بابًا حتى خرج من الكوفة‏
ولعل القارئ يعجب لماذا أقر عثمان ابن مسعود ولم يعزله‏؟‏ فنقول إن عبد اللَّه بن ‏ مسعود لما كان غلامًا كان يرعى أغنام عقبة بن أبي معيط ‏ وكان إسلامه قديمًا وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه صل الله عليه وسلم فهو راعٍ لعقبة بن أبي معيط والد الوليد أي أنه من أتباع بني أمية وكان عمر رضي اللَّه عنه بعثه إلى الكوفة معلمًا ووزيرًا ثم إن ابن مسعود لم يكن واليًا حتى يعزله عثمان رضي اللَّه عنه بل كان وزيرًا للمالية‏
أما الوليد الذي خلف سعدًا فهو أموي أخو عثمان لأمه أسلم يوم الفتح ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز وجل‏ :‏ ‏{‏إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏ نزلت في الوليد بن عقبة وذلك أن رسول اللَّه صل الله عليه وسلم بعثه مصدقًا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر عنهم أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة وذلك أنهم خرجوا إليه يتلقونه فهابهم فانصرف عنهم فبعث إليهم رسول اللَّه صل الله عليه وسلم خالد بن الوليد ‏ فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام ونزلت‏ :‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏
لما قدم الوليد على سعد قال له‏ :‏ واللَّه ما أدري أَكِسْتَ ‏[‏أَكِسْتَ‏ :‏ يقال رجل أَوْكَس أي خسيس أو قليل الحظ‏‏]‏.‏ بعدنا أم حمقنا بعدك‏؟‏‏!‏ فقال‏ :‏ ‏"‏لا تجز عن أبي إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون‏"‏‏ فقال سعد‏ :‏ ‏"‏أراكم واللَّه ستجعلونه مُلكًا‏"‏‏ وكان الوليد من رجال قريش ظرفًا وحلمًا وشجاعة وأدبًا وكان من الشعراء المطبوعين‏
قال الطبري :‏ فقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى فقدم الكوفة وكان أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب
وحدثنا أبو فرج الأصفهاني في الجزء الخامس من الأغاني عن سبب تولية الوليد الكوفة فقال‏ :‏
لم يكن يجلس مع عثمان رضي اللَّه عنه على سريره إلا العباس ابن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن العاص والوليد بن عقبة فأقبل الوليد يومًا فجلس ثم أقبل الحكم‏ فلما رآه عثمان زحل ‏[‏زَحَل‏:‏ أيّ تَنحَّى‏]‏ له عن مجلسه فلما قام الحكم قال له الوليد‏ :‏ واللَّه يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك على ابن أمك‏ فقال له عثمان رضي اللَّه تعالى عنه ‏:‏ إنه شيخ قريش فما البيتان اللذان قلتهما‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏
رأيت لعم المرء زُلْفَى قرابة   *** دون أخيه حادثًا لم يكن قدمًا
فأمَّلْتُ عَمْرًا أن يَشِبّ وخالدًا  *** لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا
يعني عمرًا وخالدًا ابني عثمان‏ فرق له عثمان وقال له‏ :‏ قد وليتك العراق يعني الكوفة

نقض أهل الإسكندرية الصلح
‏جاء في دائرة المعارف البريطانية أنه بعد استيلاء العرب على الإسكندرية بقليل انتهز‏ الروم فرصة تغيب عمرو بن العاص وارتحال جزء كبير من جيشه‏ فاستولوا على الإسكندرية‏ فلما بلغ عمرو بن العاص ذلك عاد سريعًا واستولى على المدينة وهذا يوافق ما جاء في ابن الأثير
كان استيلاء الرومان على الإسكندرية في أوائل سنة 25 هجرية وأواخر سنة 645 ميلادية وكان عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبد اللَّه ابن حذافة ‏ قال الأستاذ بتلر‏ :‏ ‏"‏وعلى كل حال فمن المؤكد أنه قد عزل قبل نزول الجيش الروماني إلى البر وأن خلفه لم يكن كفًا فترك وسائل الدفاع في حالة ضعف شديد‏"‏‏
رواية الطبري ‏ فتفيد أن عمرو بن العاص كان قد استدعي إلى مكة فلما ذاعت أخبار الثورة في الإسكندرية صدرت الأوامر إليه بتولي القيادة‏ وجاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى ما يؤيد استدعاء عمرو بن العاص بعد عزله وتولية عبد اللَّه‏
كاتب الروم قسطنطين بن هرقل ‏ وكان الملك يومئذ يخبرونه بقلة من عندهم من ‏ المسلمين وكانوا ألف جندي وبما هم فيه من الذلة وأداء الجزية فبعث رجلًا من أصحابه يقال له‏ :‏ ‏"‏أمنويل‏"‏ Emanuel The Eunuch في ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة ولم يكن للمسلمين أسطول كالأسطول الروماني‏‏ وقد رست هذه المراكب في ميناء الإسكندرية بلا إنذار فقتل حرس الإسكندرية من المسلمين ويبلغون ألفًا ولم ينج منهم إلا القليل‏‏ ولم يقتصر الجيش الروماني على الاستيلاء عليها بل توغلوا في البلاد والقرى المجاورة في أرض الدلتا واستولوا على الغلال والأموال بلا حساب وعاملوا الأهالي معاملة الأعداء المحاربين
كان العنصر الروماني في الإسكندرية هو السائد ويرى بتلر أن الجيش الروماني لو استمر في زحفه إلى الفسطاط بدلًا من ضياع الوقت في بلاد الدلتا لكان في وسعه التغلب على عبد اللَّه بن أبي سرح ‏‏ وإعادة حصن بابليون ولكنهم لم يقدموا على ذلك وبذا مكنوا عمرو بن العاص من إعادة مركزه وتنظيم جيشه
سار عمرو في خمسة عشر ألفًا والتقى بالجيش الروماني الذي يفوقه عددًا بـ ‏"‏نقيوس‏"‏ فالتحمت بينهم الحرب فاقتتلوا قتالًا شديدًا وأصيب جواد عمرو بن العاص بسهم فنزل واضطر أن يحارب على قدميه وانتهى الأمر بانهزام جيش ‏"‏أمنويل‏"‏ وفراره نحو الإسكندرية في حالة ارتباك عظيم فتحصنوا بها فقاتلهم عمرو أشد قتال ونصب المجانيق فأخذت جُدُرَها وألح بالحرب حتى دخلها بالسيف عنوة وقتل أمنويل وهدم المسلمون جدار الإسكندرية وكان عمرو نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك‏‏ ووضع عمرو على أرض الإسكندرية الخراج وعلى أهلها الجزية وبذلك استولى العرب للمرة الثانية‏‏ ويقول بتلر‏ :‏ ‏"‏إن ذلك كان صيف سنة 646 ميلادية

روى البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب ‏ قال‏ :‏ ‏"‏كان عثمان عزل عمرو بن العاص عن مصر وجعل عليها عبد اللَّه بن سعد فلما نزلت الروم الإسكندرية سأل أهل مصر عثمان أن يقر عمرًا حتى يفرغ من قتال الروم لأن له معرفة بالحرب رهيبة في أنفس العدو حتى هزم الخ‏"‏‏
كانت نتيجة نقض الإسكندرية الصلح أن استولى عليها العرب مرة ثانية وقتلوا الروم ولم يكن هناك سبب واضح لنقض معاهدة الصلح فما فعله الإمبراطور كان مخالفًا للقوانين الحربية كما قال  بتلر ولا يوجد ما يبرره فلا غرو إذا عامل العرب الثائرين بالشدة ثم إن عمرًا بعد أن أخضع الثوار في الإسكندرية ذهب لإخضاع المدن التي ثارت في الدلتا‏‏ ولما تمَّ له ذلك أرسل الأسرى إلى المدينة فأعادهم عثمان رضي اللَّه عنه
وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص‏ :‏ إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة‏‏ فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة هذا ما ذكره ابن الأثير وأشار إليه بتلر معترفًا بفضل المبادئ التي سار عليها عمرو في إدارة حكومته وبشرف طبيعته وكان أهل هذه القرى المذكورة الذين تظلموا لعمرو من الروم أقباطًا

وفاة كبار الصحابة
توفي بين سنة 32 هجرية وسنة 34 هجرية عدد من كبار الصحابة رضوان اللَّه عليهم فرأيت أن أقدم للقراء نبذة عن تاريخ كل منهم لأنهم توافوا في حياة عثمان رضي اللَّه عنه

وفاة أبي ذر الغفاري
‏(‏سنة 32 هـ/ 653 م‏)‏‏ :
لما حضرت أبا ذر الوفاة في سنة ثمان في ذي الحجة من إمارة عثمان قال لابنته‏ :‏
‏"‏استشرفي يا بنية فانظري هل ترين أحدًا‏؟‏ قالت‏ :‏ لا قال‏ :‏ فما جاءت ساعتي بعد‏ ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها‏‏ ثم قال ‏:‏ إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم إن أبا ذر يقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا‏‏ فلما نضجت قدرها قال لها‏ :‏ انظري هل ترين أحدًا‏؟‏ قالت‏ :‏ نعم هؤلاء ركب مقبلون‏‏ قال ‏:‏ استقبلي بي الكعبة‏ ففعلت وقال‏ :‏ ‏"‏بسم اللَّه وباللَّه وعلى ملَّة رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم)‏‏
ثم خرجت ابنته فتلقتهم وقالت‏ :‏ رحمكم اللَّه اشهدوا أبا ذر فادفنوه قالوا‏ :‏ وأين هو‏؟‏ فأشارت إليه وقد مات‏ قالوا‏ :‏ ونعمة عين لقد أكرمنا اللَّه بذلك‏‏ وإذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول ‏:‏ صدق رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ‏(‏يموت وحده ويبعث وحده‏)‏‏ فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه‏‏ فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت‏ :‏ إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا‏ ففعلوا وحملوهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان فضم ابنته إلى عياله وقال‏ :‏ يرحم اللَّه أبا ذر ويغفر لرافع بن خديج ‏ بن رافع الأنصاري سكوته‏ وفي رواية أخرى أنه قال‏ :‏ يرحم اللَّه أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة‏

وفاة عبد الرحمن بن عوف
‏(‏سنة 32 هـ/ 653 م‏)
وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن بن عوف وأمه الشفاء بنت عوف‏‏ ولد بعد الفيل بعشر سنين وأسلم قبل أن يدخل رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم دار الأرقم‏‏ وكان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام‏‏ وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر‏ وكان من المهاجرين الأولين‏‏ هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة وآخى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع ‏ وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم‏ وبعثه رسول اللَّه إلى دومة الجندل وعمَّمه بيده وسدلها بين كتفيه وقال ‏:‏ إن فتح اللَّه عليك فتزوج ابنة ملكهم أو قال شريفهم وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضمضم الكلبي شريفهم فتزوج ابنته تماضر بنت الأصبغ فولدت له أبا سلمة بن عبد الرحمن وكان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب‏ :‏ الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب الخلافة فيهم
وصلى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم خلفه في سفره‏‏ وجرح يوم أُحد إحدى وعشرين جراحة في رجله فكان يعرج منها‏ وسقطت ثنيتاه فكان أهتم‏ وكان كثير الإنفاق في سبيل اللَّه عز وجل‏ أعتق في يوم ثلاثين عبدًا‏
ولما آخى رسول اللَّه بينه وبين سعد بن الربيع ‏ قال له سعد‏ :‏ إن لي مالًا فهو بيني وبينك شطران‏‏ ولي امرأتان فانظر أيتهما أحببت حتى أخالعها فإذا حلت فتزوجها‏ فقال‏ :‏ لا حاجة لي في أهلك ومالك بارك اللَّه لك في أهلك ومالك دلوني على السوق ‏"‏لأنه كان من كبار التجار‏"‏ فاشترى وباع وربح‏‏
وقال النبي صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء أمين في الأرض‏)‏ ‏[‏رواه أحمد بمعناه‏]‏‏
ولما توفي عمر رضي اللَّه عنه قال عبد الرحمن بن عوف لأصحاب الشورى الذين جعلوا عمر الخلافة فيهم ‏:‏ من يخرج نفسه منها ويختار للمسلمين‏؟‏ فلم يجيبوه إلى ذلك‏ فقال‏ :‏ أنا أخرج نفسي من الخلافة وأختار للمسلمين‏ فأجابوه إلى ذلك وأخذ مواثيقهم عليه فاختار عثمان فبايعه وكان عظيم التجارة مجدودًا فيها‏‏ كثير المال‏ قيل‏ :‏ إنه دخل على أم سلمة فقال‏ :‏ يا أمة قد خفت أن تهلكني كثرة مالي‏ قالت‏ :‏ يا بني أنفق
ولما كثر ماله قدم له ذات يوم راحلة تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رَجة فقالت عائشة ‏:‏ ما هذه الرجة‏؟‏ فقيل لها عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق‏‏ فقالت عائشة‏ :‏ سمعت النبي صل اللَّه عليه وسلم يقول‏ :‏ ‏(‏يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوًا‏)‏ ‏[‏رواه ابن كثير ‏‏]‏‏‏ فلما بلغ ذلك عبد الرحمن قال‏ :‏ يا أمة إني أشهدك أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل اللَّه عز وجل‏
وتصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بشطر ماله‏ أربعة آلاف‏‏ ثم تصدق بأربعين ألفًا‏‏ ثم تصدق بأربعين ألف دينار‏‏ ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل اللَّه ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل اللَّه‏ وكان عامة ماله من التجارة‏
كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن‏ :‏ تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها‏!‏‏ فبلغ ذلك النبي صل اللَّه عليه وسلم فقال‏ :‏ ‏(‏دعوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه‏)‏ ‏[‏رواه ابن كثير‏‏]‏‏‏ وهذا إنما كان بينهما لما سيَّر رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بعد فتح مكة فقَتل فيهم خالدٌ خطأ‏ فودى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم القتلى وأعطاهم ثمن ما أخذ منهم وكان بنو جذيمة قد قتلوا في الجاهلية ‏ عوف بن عوف والد عبد الرحمن بن عوف وقتلوا الفاكه بن المغيرة عم خالد فقال له عبد الرحمن‏ :‏ إنما قتلتهم لأنهم قتلوا عمك‏ وقال له خالد‏ :‏ إنما قتلوا أباك وأغلظ في القول‏ فقال النبي صل اللَّه عليه وسلم ما قال‏
توفي عبد الرحمن سنة 32 هجرية وهو ابن 75 سنة وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل اللَّه‏‏ وأوصى لمن بقي ممن شهد بدرًا لكل 400 دينار وكانوا مائة فأخذوها وأخذ عثمان فيمن أخذ وأوصى بألف فرس في سبيل اللَّه‏
ولما مات قال علي بن أبي طالب‏ :‏ اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوَها وسبقت رَنْقها ‏[‏رَنْقَها‏:‏ كدرها‏‏]‏‏
وكان سعد بن أبي وقاص فيمن حمل جنازته وهو يقول‏ :‏ واجبلاه وخلف مالًا عظيمًا من ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت يدي الرجال منه‏ وترك ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع‏
وترك أربع نسوة‏ أخرجت امرأة من إرثها بثمانين ألفًا يعني صولحت وكان طويلًا أبيض مشربًا بحمرة‏‏ حسن الوجه‏ رقيق البشرة‏‏ أهدب الأشفار‏ أقنى‏‏ له جمة‏ ضخم الكفين‏ غليظ الأصابع ‏(‏علامة الغنى‏)‏ لا يغير لحيته ولا رأسه

وفاة العباس بن عبد المطلب
‏هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو الفضل القرشي المكي من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام جد الخلفاء العباسيين
قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في وصفه ‏:‏ ‏(‏أجود قريش كفًا وأوصلها هذا بقية آبائي‏)‏ وهو عمه كان محسنًا لقومه سديد الرأي واسع العقل مولعًا بإعتاق العبيد كانت له سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام أي لا يدع أحدًا يسبُّ أحدًا في المسجد ولا يقول فيه هجرًا‏ أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه أقام بمكة يكتب إلى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم أخبار المشركين ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين فكان ممن ثبت حين انهزم الناس شهد فتح مكة وعمي في آخر عمره وكان إذا مرَّ بعمر في أيام خلافته ترجَّل عمر إجلالًا له وكذلك عثمان عمَّر طويلًا ولد سنة 51 قبل الهجرة وتوفي سنة 32 هجرية
وشهد مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بيعة العقبة لما بايعه الأنصار ليشدد له العقد وكان حينئذٍ مشركًا‏‏ وكان ممن خرج مع المشركين يوم بدر مكرَهًا‏‏ وأسر يومئذٍ فيمن أسر‏‏ وكان قد شد وثاقه فسهر النبي صل اللَّه عليه وسلم تلك الليلة ولم ينم فقال له بعض أصحابه‏ :‏ ما يسهرك يا نبي اللَّه‏؟‏ فقال‏ :‏ ‏"‏أسهر لأنين العباس‏"‏‏‏ فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه‏ فقال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏ما لي لا أسمع أنين العباس‏؟‏‏)‏ فقال الرجل‏ :‏ أنا أرخيت من وثاقه‏‏ فقال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏فافعل ذلك بالأسرى كلهم‏)‏ ‏[‏رواه ابن سعد‏‏]‏‏ ‏(‏وهذا هو العدل‏)‏ وفدى يوم بدر نفسه وابني أخويه‏ :‏ عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ‏ بن عبد المطلب ثم هاجر إلى النبي صل اللَّه عليه وسلم وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة وشهد حنينًا وثبت مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم لما انهزم الناس بحنين‏
وكان رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يعظمه ويكرمه بعد إسلامه وكان وصولًا لأرحام قريش‏ محسنًا إليهم‏‏ ذا رأي سديد وعقل غزير‏
قال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه‏)‏ ‏[‏رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد]‏‏
وعن العباس قال‏ :‏ أتيت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فقلت‏ :‏ علمني يا رسول اللَّه شيئًا أدعو به‏‏ فقال‏ :‏ ‏(‏يا عباس يا عم رسول اللَّه سل اللَّه العافية في الدنيا والآخرة‏)‏ ‏[‏رواه المتقي الهندي‏ والذهبي‏]‏‏
وعن أنس بن مالك‏ أنهم كانوا إذا قحطوا على عهد عمر خرج بالعباس فاستسقى به وقال‏ :‏ ‏(‏اللَّهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه السلام إذا قحطنا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه السلام فاسقنا‏)‏‏
وعن موسى بن عمر قال ‏:‏ أصاب الناس قحط فخرج عمر ابن الخطاب فأخذ يستسقي بيد العباس فاستقبل به القبلة‏ فقال‏ :‏ ‏"‏هذا عم نبيك عليه السلام جئنا نتوسل به إليك فاسقنا فما رجعوا حتى سقوا‏
وعن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال ‏:‏ رأيت عمر آخذًا بيد العباس فقام به فقال‏ :‏ اللَّهم إنا نستشفع بعم رسولك صل اللَّه عليه وسلم إليك
توفي العباس بالمدينة وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة‏ وكان طويلًا جميلًا أبيض‏

وفاة عبد اللَّه بن مسعود
توفي عبد اللَّه بن مسعود بن غافل وأمه أم عبد بنت عبدُود بن سوداء‏ أسلمت أيضًا وهاجرت‏‏ فهو صحابي ابن صحابية‏ أسلم قديمًا قبل عمر بن الخطاب حين أسلم سعيد بن زيد ‏ وزوجته فاطمة بنت الخطاب ‏ أسلمت قبل أخيها عمر وأخفت إسلامها عنه فدخل عليها فسمعها تتلو آيات من القرآن فضربها وشجَّها والخبر معروف من إسلام عمر كانت زوجة لسعيد بن زيد بن عمرو
قال ابن مسعود يذكر سبب إسلامه‏ :‏
‏"‏كنت غلامًا يافعًا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها فأتى النبي صل اللَّه عليه وسلم ومعه أبو بكر‏‏ فقال‏ :‏ ‏"‏يا غلام هل معك من لبن‏؟‏‏"‏ فقلت‏ :‏ نعم ولكني مؤتمن‏‏ فقال ‏:‏ ‏"‏ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل‏"‏‏ فأتيته بعناق أو جذعة‏ فاعتقلها رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فجعل يمسح الضرع ويدعو حتى أنزلت فأتاه أبو بكر بصحفة فاحتلب فيها‏ ثم قال لأبي بكر‏ :‏ ‏"‏اشرب‏"‏‏‏ فشرب أبو بكر ثم شرب النبي صل اللَّه عليه وسلم بعده‏ ثم قال للضرع‏ :‏ ‏"‏أقلص‏"‏‏‏ فقلص فعاد كما كان‏‏ ثم أتيته فقلت‏ :‏ يا رسول اللَّه علِّمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن فمسح رأسي وقال ‏:‏ ‏"‏إنك غلام معلم‏"‏ ‏[‏رواه الطبراني]‏‏‏ قال‏ :‏ فلقد أخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر‏"‏‏
وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم
اجتمع يومًا أصحاب رسول اللَّه ـصل اللَّه عليه وسلم فقالوا‏ :‏ واللَّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط‏!‏‏ فمن رجل يسمعهم‏؟‏ فقال عبد اللَّه بن مسعود‏ :‏ أنا‏ فقالوا‏ :‏ إنا نخشاهم عليك‏‏ إنما نريد رجلًا له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه‏ فقال ‏:‏ دعوني فإن اللَّه سيمنعني‏ فغدا عبد اللَّه حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها فقال رافعًا صوته‏ :‏ ‏(‏بسم اللَّه الرحمن الرحيم الرحمن ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1 و 2‏]‏‏)‏ فاستقبلها فقرأ بها فتأملوا‏‏ فجعلوا يقولون‏ :‏ ما يقول ابن أم عبد‏!‏‏؟‏ ثم قالوا‏ :‏ إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه‏ وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللَّه أن يبلغ‏ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه‏ فقالوا :‏ هذا الذي خشينا عليك‏ فقال ‏:‏ ما كان أعداء اللَّه قط أهون عليَّ منهم الآن‏‏ ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدًا‏ قالوا‏ :‏ حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون
ولما أسلم عبد اللَّه أخذه رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم إليه وكان يخدمه فكان يدخل عليه ويلبسه نعله ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام‏‏ وهاجر الهجرتين جميعًا إلى الحبشة وإلى المدينة وصلى إلى القبلتين وشهد بدرًا وأُحدًا والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وشهد اليرموك بعد النبي صل اللَّه عليه وسلم ‏ وهو الذي أجهز على أبي جهل وشهد له رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بالجنة‏ وسيَّره عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى الكوفة وكتب إلى أهلها‏ :‏ ‏(‏إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرًا وعبد اللَّه بن مسعود معلمًا ووزيرًا وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما‏ وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي‏)‏‏‏ وليس بعد ذلك ثناء وتقدير‏
ولما مرض عبد اللَّه عاده عثمان بن عفان فقال ‏:‏ ما تشتكي‏؟‏ قال‏ :‏ ذنوبي‏‏ قال‏ :‏ فما تشتهي‏؟‏ قال‏ :‏ رحمة اللَّه‏‏ قال‏ :‏ ألا آمر لك بطبيب‏؟‏ قال ‏:‏ الطبيب أمرضني‏ قال‏ :‏ ألا آمر لك بعطاء‏؟‏ قال‏ :‏ لا حاجة لي فيه‏ قال‏:‏ يكون لبناتك‏‏ قال‏ :‏ أتخشى على بناتي الفقر‏؟‏ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة إني سمعت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يقول‏ :‏ ‏(‏من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا‏)‏ ‏[‏رواه السيوطي والفتني]‏‏
وكان يعرف بصاحب سواد رسول اللَّه ‏[‏صاحب سواد رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ أي صاحب سرَّه‏
‏[‏وسواكه ونعله‏ وكان عبد اللَّه يلبس رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم نعليه ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا فإذا أراد رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول اللَّه‏‏ وكان يصوم الاثنين والخميس‏ وكان رجلًا نحيفًا قصيرًا‏ دقيق الساقين‏ وكان من كبار الصحابة وساداتهم وفقهائهم ومقدميهم في القرآن والفقه والفتوى وأصحاب الخلق والأتباع في العلم‏ مات بالمدينة ودفن بالبقيع عند قبر عثمان بن مظعون كما أوصى وهو ابن بضع وستين سنة‏ وقيل‏ :‏ إنه ترك تسعين ألف درهم‏

وفاة عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه
شهد عبد اللَّه العقبة وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وهو الذي أُري الأذان في النوم فأمر رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بلالًا أن يؤذن على ما رآه عبد اللَّه‏‏ وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد ما بنى رسول اللَّه مسجده
قال عبد اللَّه‏ :‏ لما أصبحنا أتيت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال‏ :‏ ‏"‏هذه رؤيا حق‏ فقم مع بلال فإنه أندى صوتًا منك فألق عليه ما قيل لك وليناد بذلك‏"‏ فلما سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة خرج إلى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول‏ :‏ يا رسول اللَّه والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال فقال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏فللَّه الحمد فذاك أثبت‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد‏‏]‏‏

وفاة أبي الدرداء الأنصاري
‏(‏سنة 32 هـ/ 653 م‏)‏‏
اسمه عويمر بن مالك وقيل اسمه عامر بن مالك وعويمر لقب.‏ تأخر إسلامه قليلًا‏‏ كان آخر أهل داره إسلامًا وحسن إسلامه وكان فقيهًا عاقلًا حكيمًا‏‏ آخى رسول اللَّه بينه وبين سلمان الفارسي‏ وقال رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم :‏ ‏(‏عويمر حكيم أمتي‏)‏ ‏[‏رواه ابن حجر والمتقي الهندي والألباني‏)‏‏ و‏شهد ما بعد أحد من المشاهد
مر أبو الدرداء يومًا على رجل أصاب ذنبًا وكانوا يسبونه‏ فقال‏ :‏ أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيب ‏[‏قَلِيب‏:‏ بئر قديمة‏‏‏‏‏‏]‏ ألم تكونوا مستخرجيه‏؟‏ قالوا‏ :‏ بلى‏ قال‏ :‏ فلا تسبوا أخاكم واحمدوا اللَّه الذي عافاكم‏‏ قالوا ‏:‏ أفلا تبغضه‏ قال‏ :‏ إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي‏
ولما نزل به الموت بكى فقالت له أم الدرداء‏ :‏ وأنت تبكي يا صاحب رسول اللَّه‏؟‏ قال‏ :‏ نعم‏‏ وما لي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي‏ ودعا ابنه بلالًا فقال‏ :‏ ويحك يا بلال اعمل للساعة اعمل لمثل مصرع أبيك واذكر به مصرعك وساعتك فكأن قد‏ ثم قبض‏
وكان أبو الدرداء مقرئ أهل دمشق وقاضيهم‏‏ يهابه معاوية ويتأدب معه‏

وفاة المقداد بن الأسود الكندي
‏هو المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود الكندي الحضرمي أبو معبد صحابي من الأبطال ولد سنة 37 قبل الهجرة هو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من قاتل على فرس في سبيل اللَّه وفي الحديث‏ :‏ ‏(‏إن اللَّه أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم‏ :‏ علي والمقداد وأبو ذر وسلمان‏) كان في الجاهلية من سكان حضرموت واسم أبيه عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي توفي سنة 33 هجرية و هو قديم الإسلام من السابقين وهاجر إلى أرض الحبشة ثم عاد إلى مكة فلم يقدر على الهجرة إلى المدينة لما هاجر إليها رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم
عن ابن إسحاق قال ‏:‏ أتى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم لما سار إلى بدر الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا غيرهم فاستشار رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم الناس فقال أبو بكر فأحسن‏ وقال عمر فأحسن‏ ثم قام المقداد فقال ‏:‏ يا رسول اللَّه امض لما أمرت به فنحن معك‏‏ واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏ :‏ ‏(‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول‏ :‏ ‏(‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق نبيًا لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِماد ‏[‏الغماد‏ :‏ أشهر موضع وراء مكة بخمس ليالٍ مما يلي البحر وقيل‏ :‏ بلد باليمن‏]‏ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم خيرًا ودعا له‏)‏‏ قيل‏ :‏ لم يكن ببدر صاحب فرس غير المقداد وشهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وشهد فتح مصر‏
وكانت وفاته بالمدينة ومات بأرض له بالجرف وحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع وأوصى إلى الزبير بن العوام وصلى عليه عثمان رضي اللَّه عنه وكان عمره سبعين سنة وكان رجلًا ضخمًا طويلًا آدم ذا بطن كثير شعر الرأس يصفر لحيته وهي حسنة وليست بالعظيمة ولا بالخفيفة أعين مقرون الحاجبين أقنى
وبعد أن توفي المقداد جعل عثمان يثني عليه فقال الزبير‏ :‏ لاَ أُلفْيَنَّكَ بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زوّدتني زادي

وفاة أبي طلحة الأنصاري
‏(‏سنة 34 هـ/ 655 م‏)‏‏
اسمه زيد بن سهل الأنصاري النجّاري صحابي من الشجعان الرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام مولده في المدينة سنة 36 ق‏بل الهجرة ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره فشهد العقبة وبدرًا وأُحدًا والخندق وسائر المشاهد كان جهير الصوت وفي الحديث‏ :‏ ‏"‏صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل‏"‏ كان ردف رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يوم خيبر‏‏ توفي بالمدينة سنة 34 هجرية وقيل ‏:‏ ركب البحر غازيًا فمات فيه شهد بدرًا وآخى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم وكان من الرماة المذكورين من الصحابة، وهو من الشجعان، وله يوم أُحد مقام مشهود‏.‏ كان بقي مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بنفسه يرمي بين يديه ويتطاول بصدره ليقي رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ‏.‏ ويقول‏:‏ ‏"‏نحري دون نحرك ونفسي دون نفسك‏"‏‏.‏ وكان رسول اللَّه ـ صلى اللَّه عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏"‏صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة رجل‏"‏ ‏[‏رواه أحمد وفيه‏ :‏ ‏"‏خير من فئة‏"]‏‏ وقتل يوم حنين عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم‏ وكان أكثر الأنصار مالًا و توفي بالمدينة وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه عثمان بن عفان‏ وكان لا يخصب وكان آدم مربوعًا‏

وفاة عبادة بن الصامت الأنصاري
‏(‏سنة 34 هـ/ 655 م‏)‏‏
اسمه غنم بن عوف ‏[‏عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي] شهد العقبة الأولى والثانية وكان نقيبًا على قوافل بني عوف بن الخزرج وآخى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بينه وبين أبي مرئد الغنوي وشهد بدرًا وأُحدًا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم واستعمله على بعض الصدقات وكان يعلم أهل الصفة القرآن ولما فتح المسلمون الشام أرسله عمر بن الخطاب وكان طويلًا جسيمًا جميلًا‏ وشهد بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم واستعمله رسول ‏‏ اللَّه على بعض الصدقات وقال له ‏:‏ ‏"‏اتق اللَّه‏‏ لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء أو شاة لها ثؤاج‏"‏ ‏[‏رواه البيهقي وابن عساكر‏‏]‏‏‏ قال‏ :‏ ‏"‏فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على اثنين‏"‏‏‏ وهو من الذين جمعوا القرآن زمن رسول اللَّه‏ وكان عبادة يعلم أهل الصفة القرآن‏‏ ولما فتح المسلمون الشام أرسله عمر بن الخطاب وأرسل معه معاذ بن جبل ‏‏ وأبا الدرداء ليعلموا الناس القرآن بالشام ويفقهوهم في الدين‏‏ وأقام عبادة بحمص وأقام أبو الدرداء بدمشق ومضى معاذ إلى فلسطين ثم صار عبادة بعد إلى فلسطين‏ وكان معاوية خالفه في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول فقال عبادة‏ :‏ لا أساكنك بأرض واحدة أبدًا ورحل إلى المدينة‏‏ فقال عمر‏ :‏ ما أقدمك‏؟‏ فأخبره فقال ‏:‏ ارجع إلى مكانك لا يفتح اللَّه أرضًا لست فيها أنت ولا أمثالك وكتب إلى معاوية‏ :‏ لا إمرة لك عليه‏
وبايع عبادة رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم على أن لا يخاف في اللَّه لومة لائم فقام في الشام خطيبًا فقال‏ :‏ ‏"‏يا أيها الناس‏‏ إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي‏‏ ألا إن الفضة بالفضة وزنًا بوزن تبرها وعينها‏ والذهب بالذهب وزنًا بوزن تبره وعينه‏‏ ألا ولا بأس ببيع الذهب بالفضة يدًا بيد والفضة أكثر ولا يصلح نسيئة‏ ألا وإن الحنطة بالحنطة مدْيًا بمدى‏ والشعير بالشعير مديًا بمدي ‏[‏المدي‏ :‏ مكيال تسعة عشر صاعًا وهو غير المد يسع‏]‏‏‏ ألا ولا بأس ببيع الحنطة بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد ولا يصلح نسيئة والتمر بالتمر مديًا بمدي والملح بالملح مديًا بمدي ومن زاد أو ازداد فقد أربى‏"‏‏
وعبادة أحد النقباء‏‏ بدري كبير وكان طويلًا جسيمًا جميلًا من كبار زاد العلماء‏‏ توفي بالرملة‏ وقيل‏ :‏ توفي ببيت المقدس وهو ابن اثنتين وسبعين سنة‏

الفتنة‏‏

تسيير أهل الفتنة في العراق إلى معاوية في الشام
اختار سعيد بن العاص والي الكوفة بعد الوليد بن عقبة وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل البصرة دخلته إذا خلا فأما إذا جلس الناس فإنه يدخل عليه كل أحد‏ فجلس للناس يومًا فدخلوا عليه فبينما هم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان الأسدي‏ :‏ ما أجود طلحة بن عبيد اللَّه‏ فقال سعيد بن العاص‏ :‏ ‏‏إن من له مثل النشاستج ‏[‏نشاستج‏ :‏ ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد اللَّه التميمي‏ وكانت عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها‏‏‏]‏ حقيق أن يكون جوادًا‏‏ واللَّه لو أن ليِّ مثله لأعاشكم اللَّه عيشًا رغدًا‏"‏
فقال عبد الرحمن بن خنيس وهو حدث‏ :‏ واللَّه لوددت أن هذا الملطاط ‏[‏قال ابن النجار في كتاب الكوفة‏ :‏ وكان يقال لظهر الكوفة‏ :‏ اللسان وما ولى الفرات منه الملطاط‏‏‏]‏ لك يعني ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة
قالوا‏ :‏ فضَّ اللَّه فاك واللَّه لقد هممنا بك‏ فقال خنيس ‏:‏ غلام فلا تجاوزوه فقالوا‏ :‏ يتمنى له من سوادنا‏ قال‏ :‏ ويتمنى لكم أضعافه قالوا‏ :‏ لا يتمنى لنا ولا له‏ قال ‏:‏ ما هذا بكم‏‏ قالوا‏ :‏ أنت واللَّه أمرته بها‏‏ فثار إليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابئ فأخذوه‏ فذهب أبوه ليمنع عنه فضربوهما حتى غشي عليهما وجعل سعد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطرًا‏
فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة ‏ بن خويلد الأسدي يقال له‏ :‏ طُلَيْحة الكذاب فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعادوا بسعيد فخرج سعيد إلى الناس فقال‏ :‏ أيها الناس‏‏ قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق اللَّه العافية‏‏ ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا‏ وأفاق الرجلان فقال‏ :‏ أبكما حياة‏؟‏ قالا‏ :‏ قتلتنا غاشيتك ‏[‏غاشيتك‏ :‏ أي الذين يترددون عليك‏‏]‏‏
‏قال‏ :‏ لا يغشوني واللَّه أبدًا فاحفظا عليَّ ألسنتكما ولا تجرَّئا عليَّ الناس ففعلا ‏[‏ابن الأثير‏]‏‏
ولما انقطع أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل الكوفة في أمرهم‏‏ فقال‏ :‏ هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئًا فمن أراد أن يحرك شيئًا فليحركه إن هؤلاء النفر لما قعدوا في بيوتهم تكلموا في حق الخليفة عثمان وشتموه‏
وقيل‏ :‏ بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر ‏[‏يسمر ‏:‏ يتحدَّث ليلًا‏‏‏]‏ عند سعيد بن العاص وجأوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب والأسود بن يزيد ‏ وعلقمة بن قيس ومالك الأشتر وغيرهم‏‏ فقال سعيد‏ :‏ إنما هذا السواد بستان قريش فقال الأشتر‏ :‏ أتزعم أن السواد الذي أفاءه اللَّه علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك وتكلم القوم معه‏‏ فقال عبد الرحمن الأسدي وكان على شرطة سعيد ‏:‏ أتردون على الأمير مقالته‏؟‏ وأغلظ عليهم‏ فقال الأشتر‏ :‏ مَنْ ههنا‏؟‏ لا يفوتنكم الرجل فوثبوا عليه فوطأوه وطًا شديدًا حتى غشي عليه‏ ثم جرّوه برجله فنضح بماء فأفاق فقال‏ :‏ قتلتني من انتخبت‏ فقال‏ :‏ واللَّه لا يسمر عندي أحد أبدًا فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدًا‏‏ واجتمع إليهم الناس حتى كثروا فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم‏
ومن هنا يتضح أن الفتنة قد بلغت عندئذٍ حدًا عظيمًا في الكوفة فضعف مركز الوالي ولم ‏ يقدر أن يؤدبهم حتى اجترأوا أن يضربوا من رد عليهم ضربًا مبرحًا من غير أن يستطيع أن يبدي حراكًا ولما منع الاجتماع أخذوا يشتمونه ويشتمون الخليفة‏‏
كتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب‏ :‏ إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية‏ وكتب عثمان إلى معاوية‏ :‏ ‏"‏إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدًا فاقبل منهم وإن أعيوك فاردد عليهم‏‏‏"‏
فلما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى ‏"‏مريم‏"‏ وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق وجعل يتغدى ويتعشى معهم فقال لهم يومًا‏ :‏
‏"‏إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفًا وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم‏‏ وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة فلا تسدوا عن جنتكم‏‏ وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة واللَّه لتنتهن أو ليبتلينكم اللَّه بمن يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر لم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعيَّة في حياتكم وبعد موتكم‏"‏‏
فقال رجل من القوم وهو صعصعة‏ :‏
‏"‏أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا‏‏ وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اختُرقت خُلص إلينا‏"‏‏
فقال معاوية‏ :‏ ‏"‏عرفتكم الآن‏ علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلًا أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني الجاهلية وقد وعظتك وتزعم لما يجنك أنه يخترق إليك ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة أخزى اللَّه أقوامًا أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم افقهوا ولا أظنكم تفقهون‏ إن قريشًا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا باللَّه عز وجل لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا ومحضهم أنسابًا وأعظمهم أخطارًا وأكملهم مروءة ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضًا إلا باللَّه الذي لا يُستذل من أعز ولا يوضع من رفع فبوَّأهم حَرَمًا آمنًا يُتَخَطف الناس من حولهم‏ هل تعرفون عربًا أو عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلا قد أصابهم الدهر في بلدهم وحُرْمتهم بدولة إلا ما كان من قريش فإنه لم يُردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل اللَّه خده الأسفل حتى أراد اللَّه أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا ثم بُنيَ هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم‏‏ ولا يصلح ذلك إلا عليهم فكان اللَّه يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم باللَّه أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم‏ أف لك ولأصحابك ولو أن ‏ متكلمًا غيرك تكلم ولكنك ابتدأت‏‏ فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية وأنتنها نبتًا وأعمقها واديًا وأعرفها بالشر وألأمها جيرانًا‏ لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَ بها وكانت عليه هُجْنَة ‏[‏الهُجْنَة من الكلام‏ :‏ ما يلزمك منه العيب تقول‏ :‏ ‏"‏لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة‏"‏‏‏‏]‏ ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا وألأمهم أصهارًا نُزَّاع الأمم وأنتم جيران الخط وفَعَلة فارس حتى أصابتكم دعوة النبي صل اللَّه عليه وسلم ونكبتك دعوته وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صل اللَّه عليه وسلم فأنت شر قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك أقبلت تبغي دين اللَّه عِوَجًا وتنزع إلى اللامة والذلة ولا يضع ذلك قريشًا ولن يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم‏ إن الشيطان عنكم غير غافل‏ قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس وهو صارعكم لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه اللَّه ولا أمرًا أراده اللَّه ولا تدركون بالشر أمرًا إلا فتح عليكم شرًا منه وأخزى‏"‏‏
فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال‏ :‏ ‏"‏إني أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع اللَّه بكم أحدًا أبدًا ولا يضره‏‏ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة فإن أرتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام فإن البطر لا يعتري الخيار اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم‏"‏‏
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم‏ :‏
‏"‏إني معيد عليكم أن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم كان معصومًا فولاَّني وأدخلني في أمره ثم استخلف أبو بكر فولاَّني‏‏ ثم استخلف عمر فولاَّني ثم استخلف عثمان فولاَّني‏‏ فلم يولني أحد إلا وهو عني راضٍ‏"‏‏
وإنما طلب رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم للأعمال أهل الجزاء من المسلمين والغنى وأن اللَّه ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به فلا تتعرضوا للأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون فإن اللَّه غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم وقد قال عز وجل ‏:‏ ‏{‏ الم‏.‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏ }‏ ‏[‏العنكبوت‏ :‏ 1 و 2‏]‏‏
وكتب معاوية إلى عثمان ‏:‏
‏"‏إنه قدم عليَّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أضجرهم العدل لا يريدون اللَّه بشيء ولا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة واللَّه مبتليهم ومختبرهم‏‏ ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم فإنه سعيد ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا الأكثر من شغب أو تكبر‏"‏‏
وخرج القوم من دمشق فقالوا‏ :‏ لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشتمون بكم وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان معاوية قد ولاَّه حمص وولَّى عامل الجزيرة حَرّان والرقَّة فدعا بهم فقال‏ :‏ ‏"‏يا آلة الشيطان لا مرحبًا بكم ولا أهلًا قد رجع الشيطان محسورًا وأنتم بعدُ نٍشَاط خسَّر اللَّه عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون ‏ لمعاوية‏:‏ أنا ابن خالد بن الوليد‏‏ أنا ابن مَنْ عجمته العاجمات‏‏ أنا ابن فاقئ الردة‏ واللَّه لئن بلغني يا صعصعة بن ذُل أن أحدًا ممن دق أنفك ثم أمصّك لأطيرن بك طَيْرة بعيدة المهوى‏"‏‏
فأقامهم أشهرًا كلما ركب أمشاهم فإذا مرَّ به صعصعة قال‏ :‏ ‏"‏يا ابن الحطيئة ‏[‏ورد في ابن الأثير‏"‏بابن الخطيئة‏"‏‏]‏ أعلمت أن من لم يُصلحه الخير أصلحه الشر‏‏ ما لك لا تقول كما كان يبلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية‏‏‏"‏
فيقولون‏ :‏ نتوب إلى اللَّه أقلنا أقالك اللَّه‏ فما زالوا به حتى قال‏ :‏ تاب اللَّه عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم‏ :‏ ما شئتم إن شئتم فاخرجوا وإن شئتم فأقيموا‏
وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه وعن أصحابه فقال‏ :‏ سلمكم اللَّه‏‏ وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر‏ :‏ احلل حيث شئت‏ فقال مع عبد الرحمن بن خالد وذكر من فضله فقال‏ :‏ ذلك إليكم فرجع إلى عبد الرحمن‏
قد كان عبد الرحمن بن خالد أشد عليهم من معاوية وقد تابوا على يديه‏

لقد تطاول هؤلاء على معاوية وأمروه أن يتخلى عن مركزه لأن من المسلمين من هو أصلح منه كما تطاولوا على سعيد من قبل وطعنوا على عثمان‏ وهم وإن كانوا من أشراف أهل العراق إلا أنهم أهل فتنة‏ وقد تسامح معهم معاوية كما تسامح معهم سعيد ومن هذا يتبين مقدار الحرية التي كانت ممنوحة للرعية في ذلك الوقت فلم يؤخذوا ويحاكموا على أقوالهم ومطاعنهم إنما اكتفى بتسييرهم من بلد إلى آخر وأجرى عليهم عبد الرحمن بن خالد رزقًا‏

خلو الكوفة من الرؤساء
‏أذن معاوية لأهل الفتنة الذين أمر عثمان بتسييرهم إلى الشام أن يذهبوا أنى شاءوا فتحدثوا فيما بينهم فقالوا‏ :‏ إن العراق والشام ليسَا لنا بدار فعليكم بالجزيرة فأتوها اختيارًا فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم الشدة كما ذكرناه وتابعوه وتابوا وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال‏ :‏ اذهب حيث شئت‏ فقال‏ :‏ أرجع إلى عبد الرحمن فرجع‏
ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان‏ وكان سعيد قد ولي قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى‏ :
الأشعث بن قيس ‏ بن معدي كرب الكندي أبو محمد ولد سنة 23 قبل‏ الهجرة أمير كندة في الجاهلية والإسلام كانت إقامته في حضرموت وفد على النبي صل اللَّه عليه وسلم بعد ظهور الإسلام في جمع من قومه أسلم وشهد اليرموك فأصيبت عينه ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض بطون كندة عن تأدية الزكاة فتنحى والي حضرموت بمن بقي على الطاعة من كندة وجاءته النجدة فحاصر حضرموت فاستسلم الأشعث وفتحت حضرموت عنوة وأرسل الأشعث موثوقًا إلى أبي بكر المدينة ليرى فيه رأيه فأطلقه أبو بكر وزوَّجه أخته أم فروة فأقام في المدينة وشهد الوقائع وأبلى البلاء الحسن ثم كان مع سعد بن أبي وقاص في حروب العراق ولما آل الأمر إلى علي كان الأشعث معه يوم صفِّين على راية كندة وحضر معه وقعة النهروان وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فتوفي فيها سنة 40 هجرية على أثر اتفاق الحسن ومعاوية كان من ذوي الرأي والإقدام موصوفًا بالهيبة هو أول راكب في الإسلام مشت معه الرجال يحملون الأعمدة بين يديه ومن خلفه
سعيد بن قيس ‏[‏هو سعيد بن قيس بن زيد فارس من الأجواد الدهاة من سلالة ملوك همدان كان خاصًا بالإمام علي قاتل معه يوم صفِّين كان إليه أمر همدان بالعراق وإليه ينسب السعيدين في بيت زُود باليمن‏
النُّسَيْر بن ديسم بن ثور بن عريجة بن ملحم بن هلال بن ربيعة العجلي قائد فاتح أدرك النبي صل اللَّه عليه وسلم شهد في عهد عمر الفتوح كلها والقادسية وهو من تُنسب إليه قلعة النُسير قرب نهاوند كانت من قلاع الفرس فاعتصم بها قوم منهم أيام زحف العرب حاصرها وفتحها فعرفت باسمه سنة 21 هجرية توفي سنة 35 هجرية
السائب بن الأقرع ‏:‏ الى أصبهان
مالك بن حبيب ‏:‏ الى ماه‏
حكيم بن سلام الخزامي ‏:‏ الى الموصل‏
جرير بن عبد اللَّه ‏:‏ الى قرقيسيا‏
سلمان بن ربيعة ‏:‏ الى الباب‏
عتيبة بن النهاس ‏:‏ الى حُلوان‏
10ـ القعقاع بن عمرو ‏ التميمي أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام له صحبة شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس سكن الكوفة وأدرك وقعة صفِّين مع علي بن أبي طالب وكان يتقلَّد في أوقات الزينة سيف هرقل ‏(‏ملك الروم‏)‏ ويلبس درع بهرام ‏(‏ملك الفرس‏)‏ وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس وكان شاعرًا فحلًا قال أبو بكر‏ :‏ ‏"‏صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل‏"‏ توفي سنة 58 هجرية
هؤلاء عشرة من الكبار أُرسلوا إلى جهات متعددة‏ ولو أنهم بقوا بالكوفة لكان لهم تأثير في منع ما عساه أن يحدث من الشغب والفتنة ولكن سعيد بن العاص لم يكن يتوقع انتشار الفتنة فأرسلهم إلى هذه المراكز لأغراض حربية‏ وبذلك خلت الكوفة من الرؤساء‏

عزل سعيد بن العاص
‏وتولية أبي موسى الأشعري‏ :‏
خرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كان يكاتبهم ابن السوداء ‏[‏هو عبد اللَّه بن سبأ وكان يهوديًا من جنوب بلاد العرب فأسلم واستفسد الناس على عثمان وبثَّ دعايته في الآفاق وتنقل في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر يدعو الناس للثورة‏]‏ فقال القعقاع بن عمرو‏ :‏ إنما نستعفي من سعيد‏ :‏ فقال يزيد‏ :‏ أما هذا فنعم وكاتب المسيرين ‏[‏وهم الذين سيَّرهم عثمان إلى معاوية ومنهم الأشتر وصعصعة‏‏‏]‏ ليقدموا عليه‏ فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن بن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس إلا والأشتر على باب المسجد مسجد الكوفة يقول‏ :‏ جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيدًا يريد علي نقصان نسائكم على مائة درهم ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين ويزعم أن فيئكم بستان قريش فاستخف الناس‏ وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم‏
فخرج يزيد وأمر مناديًا ينادي‏ :‏ من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل فبقي أشرافهم وحلماؤهم في المسجد وعمرو بن حُرَيث القرشي يومئذٍ خليفة سعيد فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه وأمرهم بالاستماع والطاعة فقال له القعقاع‏ :‏ ‏"‏أترد السيل عن أدراجه‏؟‏ هيهات لا واللَّه لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضي ويعجون هجيج العيدان ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده اللَّه عليهم أبدًا فاصبر‏"‏‏‏ قال‏ :‏ أصبر وتحوَّل إلى منزله‏
وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرَعة وهي قريب من القادسية ومعه الأشتر فوصل إليهم سعيد بن العاص‏‏ فقالوا‏ :‏ لا حاجة لنا بك‏ قال‏ :‏ إنما يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وإليَّ رجلًا‏ وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد‏‏ وجاء في الطبري نص الخطبة التي ألقاها عليهم عمرو بن حُرَيث نائب سعيد وهي كما يلي ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 642‏]‏‏:‏
‏{‏ اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا }‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏] بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها‏ فلا تعودوا في شر قد استنقذكم منه اللَّه عز وجل‏ أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقًا وتصيبون بابه‏!‏‏"
ولما انصرف عنهم سعيد أحسوا بمولى لهم على بعير قد حسر فقال‏ :‏ واللَّه ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البدل‏ وأنهم يختارون أبا موسى‏‏ قال‏ :‏ ‏"‏أثبتنا أبا موسى عليهم وواللَّه لا نجعل لأحد عذرًا ولا نترك لهم حجة ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون‏"‏‏
وقد أراد عثمان بخلع سعيد وتنصيب أبي موسى أن تهدأ الفتنة ولا يكون لأحد بعد ذلك عذر أو شكوى‏‏ وكتب إليهم ‏:
‏"‏أما بعد فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد وواللَّه لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يُعصى اللَّه فيه إلا سألتموه ولا شيئًا كرهتموه لا يعصى اللَّه فيه إلا استعفيتم منه‏‏ أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على اللَّه حجة كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون‏"‏‏
ورجع من الأمراء من قرب عمله من الكوفة فرجع جرير من قرقيسياء‏ وعتيبة من حُلوان‏
وقام أبو موسى الأشعري فتكلم بالكوفة فقال‏ :
‏"‏أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله‏ ألزموا جماعتكم الطاعة وإياكم والعجلة‏ فأجابوه إلى ذلك‏ وقالوا‏ :‏ فصلِّ بنا قال لا‏‏ إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان‏ قالوا‏ :‏ السمع والطاعة لعثمان‏

رسول أهل الكوفة إلى عثمان
اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلمه ويخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد اللَّه التميمي وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس فدخل عليه فقال‏ :‏ إن ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورًا عظامًا فاتق اللَّه عز وجل وتب إليه وانزع عنها‏
فقال عثمان‏ :‏ انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجيء فيكلمني في المحقَّرات فواللَّه ما يدري أين اللَّه‏‏ قال عامر‏ :‏ أنا لا أدري أين اللَّه‏؟‏ قال‏ :‏ نعم واللَّه ما تدري أين اللَّه‏‏ قال عامر‏ :‏ بلى واللَّه إني لأدري أن اللَّه بالمرصاد لك‏

عثمان يجمع أهل الرأي ليشاورهم في الأمر
أرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان و عبد اللَّه بن سعد بن أبي سُرح و سعيد بن العاص و عمرو بن العاص و عبد اللَّه بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه وما بلغه عنهم فلما اجتمعوا عنده قال لهم‏ :‏
‏"‏إن لكل امرئ وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ولقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليَّ‏"‏‏ فقال له عبد اللَّه بن عامر‏ :‏ ‏"‏رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه‏"‏‏
فقال عثمان‏ :‏ ‏(‏إن هذا الرأي لولا ما فيه‏)‏ خشي عثمان أن ينفذ رأي ابن عامر الذي يقضي بقطع دابر قادة الفتنة للخلاص من شرهم ودسائسهم‏ ثم أقبل عثمان على معاوية فقال‏ :‏ ما رأيك‏؟‏
قال‏ :‏ ‏"‏أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عُمالك على الكفاية لما قِبَلهم وأنا ضامن لك قِبَلي‏"‏‏
ثم أقبل على عبد اللَّه بن سعد فقال‏ :‏ ما رأيك‏؟‏
قال‏ :‏ ‏"‏أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليهم قلوبهم‏"‏‏
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له‏ :‏ ما رأيك‏؟‏‏
قال ‏:‏ ‏"‏أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعدل فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل فإن أبيت فاعتزم عزمًا وامض قُدمًا‏"‏‏ فرأى عمرو أن عثمان لا يعدل فطلب إليه أن يعتزل أو يعدل ولا يتردد فقال عثمان‏ :‏ ‏"‏ما لك قِملَ فروك‏‏ أهذا الجد منك‏؟‏‏"‏‏‏
فسكت عمرو حتى إذا تفرَّقوا قال‏ :‏ ‏"‏لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك‏ ولكني قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًا‏"‏‏‏
لكن كلام عمرو هذا من شأنه أن يزيد نار الفتنة والنقمة على عثمان اشتعالًا لأنه قال بصريح العبارة :‏ ‏"‏فاعتزم أن تعدل‏"‏‏ ومعنى هذا أنه لا يعدل فكيف يستطيع عمرو بعد ذلك أن يقود إلى عثمان خيرًا أو يدفع عنه شرًا‏؟‏‏!‏‏‏ ومعلوم أن عمرًا كان ساخطًا على الخليفة لأنه عزله عن ولاية مصر بعد أن فتحها‏ ولما أحس عمرو بأنه كدَّر عثمان بقوله أمام هؤلاء النفر أراد أن يسترضيه على حدة فقال ما قال
رد عثمان بعد ذلك عماله على أعمالهم وأمرهم بالتضييق على من قبلهم وأمرهما بتجمير الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه‏

علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحادث عثمان في أمر الفتنة
‏لما كانت سنة 34 هجرية كتب أصحاب رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم بعضهم إلى بعض أن أقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد وأصحاب رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذبُّ إلا زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فاجتمع الناس وكلموا عليّ بن أبي طالب فدخل على عثمان فقال‏ :‏ ‏"‏الناس ورائي وقد كلَّموني فيك‏‏ واللَّه ما أدري ما أقول لك‏‏ وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه‏‏ إنك لتعلم ما نعلم‏ ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خُصصنا بأمر دونك وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ونلت صهره وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الخير منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك وإنك أقرب إلى رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم رَحِمًا‏ ولقد نلت من صهر رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ما لم ينالا‏‏ ولا سبقناك إلى شيء‏ فاللَّه اللَّه في نفسك فإنك واللَّه ما تُبصَّر من عمَى ولا تُعَلَّم من جهل وإن الطريق لواضح بيَّن وإن أعلام الدين لقائمة‏‏ تَعلَّم يا عثمان أن أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل هُدِي وهَدَى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة‏‏ فواللَّه إن كُلاَّ لبيَّن وإن السنن لقائمة لها أعلام وإن البدع لقائمة لها أعلام وإن شرَّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلَّ وضُلَّ به فأمات سُنة معلومة وأحيا بدعة متروكة وإني سمعت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم يقول ‏:‏ ‏(‏يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم‏)‏ ‏[‏رواه ابن كثير‏ [ ‏وإني أحذرك اللَّه وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول فإن يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة وتُلْبَس أمورها عليها ويتركهم شِيَعًا فلا يبصرون لحق لعلو الباطل يموجون فيها موجًا ويمرحون مَرَحًا‏‏‏"‏
فقال عثمان‏ :‏ ‏‏ ‏"‏قد واللَّه علمت ليقولُنّ الذي قلتَ‏ أما واللَّه لو كنت مكاني ما عنفتك ولا ‏ أسلمتك ولا عبتُ عليك ولا جئتُ منكرًا إن وصلتُ رَحمًا وسددتُ خَلة وآويت ضائعًا ووليت شبيهًا بمن كان عمر يولي‏‏ أنشدك اللَّه يا عليُّ هل تعلم أن المغيرة بن شُعبة ليس هناك‏؟‏ قال‏ :‏ نعم‏ قال‏ :‏ فتعلم أن عمر ولاه‏؟‏ قال‏ :‏ نعم‏‏ قال‏ :‏ فَلِمَ تلومني أن وليت ابن عامر في رَحمه وقرابته‏ قال عليُّ‏ :‏ سأخبرك إن عمر بن الخطاب كان كل من ولى فإنما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية وأنت لا تفعل‏‏ ضعفت ورفقت على أقربائك‏‏ قال عثمان‏ :‏ هم أقرباؤك أيضًا‏ فقال علي‏ :‏ لعمري إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرها‏‏ قال عثمان‏ :‏ هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها‏؟‏ فقد وليته‏ فقال عليُّ‏ :‏ أنشدك اللَّه هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يَرفْأ غلام عمر منه قال‏ :‏ نعم‏ قال عليّ‏ :‏ فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها‏‏ فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك ولا تُغير على معاوية‏
ثم خرج عليُّ من عند عثمان وخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر فقال‏ :‏

خطبة عثمان في المسجد
‏"‏أما بعد فإن لكل شيء آفة ولكل أمر عاهة وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة‏ :‏ عيَّابون طعَّانون يرونكم ما تحبون ويُسرون ما تكرهون يقولون لكم ويقولون أمثال النعام يتبعون أول ناعق‏‏ أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نَغصًا ولا يَرِدون إلا عكرًا لا ‏‏ يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور وتعذرت عليهم المكاسب‏‏ ألا فقد واللَّه عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولكنه وطئكم برجله‏؟‏ وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدِنْتم له على ما أحببتم أو كرهتم ولِنْتُ لكم وأوطأت لكم كففي ‏[‏‏؟‏‏؟‏‏]‏ وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم عليّ أما واللَّه لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثرًا عددًا وأقمن إن قلت هَلُم‏‏ أُتِيَ إليّ‏ ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولًا وكشرت لكم عن نابي‏ وأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أحسنه ومنطقًا لم أنطق به فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم مَن لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا ألا فما تفقدون من حقكم‏ واللَّه ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن قبلي‏‏ ومَن لم تكونوا تختلفون عليه فضلَ فضْلٍ من مال‏ فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد‏‏ فَلِمَ كنت إمامًا‏"‏ ‏[‏الطبري و ابن الأثير]‏‏
فقام مروان بن الحكم فقال‏ :‏ إن شئتم حكَّمنا واللَّه بيننا وبينكم السيف‏‏ نحن واللَّه وأنتم كما قال الشاعر‏:‏
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم *** معارسكم تبنون في دِمن الثرى
فقال عثمان‏ :‏ اسكت لا سُكِّتّ‏‏ دعني وأصحابي‏ ما منطقك في هذا‏؟‏ ألم أتقدم إليك ألا تنطق‏؟‏ فسكت مروان ونزل عثمان‏ قال عثمان لعليٍّ‏ :‏ إنه عيَّن من عينَّهم عمر بن الخطاب ومع ذلك لم يؤاخذه أحد‏‏ فعيَّن المغيرة ومعاوية فكان ردُّ عليٍّ أن عمر كان لا يتسامح مع من ولاَّه إذا ارتكب شيئًا وأن عثمان يعامل أقاربه بالرفق ولا يعاقبهم‏ هذا ملخص ما دار بينهما أما الخطبة التي ألقاها عثمان فلم يكن لها تأثير في تهدئة الفتنة بل اشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه‏‏ ويلاحظ أن مروان يتداخل ويهدد الناس بالحرب بالرغم من أن عثمان كان قد أمره بلزوم الصمت

قتل عثمان ‏"‏ونُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ"‏ ‏(‏35 هـ/ 656 م‏)‏
قتل عثمان رضي الله عنه
‏[‏الطبري و ابن الأثير‏]‏ يوم الجمعة 8 من ذي الحجة سنة 35 هجرية
قال ابن عديس لأصحابه ‏:‏ لا تتركوا أحدًا يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده‏ وأصرَّ المصريون على قتله‏ وقصدوا الباب فمنعهم الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة‏ واجتلدوا ‏[‏اجتلدوا‏:‏ تضاربوا‏‏]‏ فزجرهم عثمان وقال‏ :‏ أنتم في حلٍّ من نصرتي فأبوا ففتح الباب لمنعهم‏‏ فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين‏
فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض وكان من الصحابة فنادى عثمان فبينما هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله‏‏ فقالوا لعثمان عند ذلك‏ :‏ ادفع إلينا قاتله لنقتله به‏‏ قال‏ :‏ لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي‏‏ فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب فلم يمنعهم أحد منه والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه فجاءوا بنار فأحرقوه‏ وثار أهل الدار وعثمان يصلي قد افتتح ‏{‏طه‏}‏ ‏[‏طه‏ :‏ 1‏]‏ فما شغله ما سمع ما يخطئ وما يتتعتع حتى أتى عليها‏ فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه وقرأ‏ :‏ ‏{‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏ }‏ ‏[‏آل عمران‏ :‏ 173‏]‏ فقال لمن عنده بالدار ‏:‏ إن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم قد عهد إليَّ عهدًا فأنا صابر عليه ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه‏
اقتحم الناس الدار من الدورة التي حولها حتى ملؤوها ولا يشعر الذين بالباب ممن وقفوا ‏ للدفاع‏‏ وأقبلت القبائل على أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلًا لقتله فانتدب له رجل فدخل عليه البيت فقال‏ :‏ ‏"‏اخلعها وندعك‏‏‏"‏
فقال‏ :‏ ‏"‏ويحك واللَّه ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيتُ ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم ولست خالعًا قميصًا كسانيه اللَّه عز وجل وأنا على مكاني حتى يُكرم اللَّه أهل السعادة ويُهين أهل الشقاء‏"‏‏
فخرج وقالوا‏ :‏ ما صنعت‏؟‏ فقال‏ :‏ عَلِقنا واللَّه واللَّه ما ينجينا من الناس إلا قتله وما يحل لنا قتله‏
فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث‏‏ فقال‏ :‏ ممن الرجل‏؟‏ فقال‏ :‏ ليثي‏ فقال‏ :‏ لست بصاحبي‏ قال‏ :‏ وكيف‏؟‏ فقال‏ :‏ ألست الذي دعا لك النبي صل اللَّه عليه وسلم في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا‏؟‏ قال‏ :‏ بلى‏ قال‏ :‏ فلن تضيع فرجع وفارق القوم‏
فأدخلوا عليه رجلًا من قريش فقال‏ :‏ يا عثمان إني قاتلك‏؟‏‏ قال‏ :‏ كلا يا فلان لا تقتلني‏ قال‏ :‏ وكيف‏؟‏ قال‏:‏ إن رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دمًا حرامًا‏ فاستغفر ورجع وفارق أصحابه‏
فأقبل عبد اللَّه بن سلام ‏ بن الحارث الإسرائيلي أبو يوسف حتى قام على الباب ينهاهم عن قتله وقال‏ :‏
‏"‏يا قوم لا تسلّوا سيف اللَّه بينكم‏‏ فواللَّه إن سللتموه لا تغمدوه ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرَّة فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف‏‏ ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللَّه‏‏ واللَّه لئن قتلتموه لتتركنها‏"‏ ‏[‏الطبري و ابن الأثير‏]‏‏
فقالوا‏ :‏ يا ابن اليهودية وما أنت وهذا فرجع عنهم‏
وروي عن عبد اللَّه بن عمير عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال‏ :‏
لما أُريد قتل عثمان رضي اللَّه عنه جاء عبد اللَّه بن سلام فقال له عثمان‏ :‏ ما جاء بك‏؟‏ قال‏ :‏ جئت في نصرك‏‏ قال‏ :‏ اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير إليَّ منك داخل‏ فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال‏ :‏
‏"‏أيها الناس إنه كان اسمي في الجاهلية فلانًا فسماني رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه ونزلت فيَّ ‏[‏ص 181‏]‏ آيات من كتاب اللَّه عز وجل‏‏ ونزل فيَّ‏ :‏ ‏{ ‏وَشَهدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى مِثلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏ }‏ ‏[‏الأحقاف‏ :‏ 10‏]‏ ونزل فيَّ ‏:‏ ‏{‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ‏ }‏ ‏[‏الرعد‏ :‏ 43‏]‏‏ إن للَّه سيفًا مغمودًا وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم فاللَّه اللَّه في هذا الرجل إن تقتلوه لتطردن جيرانكم الملائكة وليسلنّ سيف اللَّه المغمود فيكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قالوا‏ :‏ اقتلوا اليهودي‏
وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر‏ فقال له عثمان‏ :‏
‏"‏ويلك على اللَّه تغضب‏؟‏ هل لي إليك جُرم إلا حق أخذته منك‏؟‏ ورجع‏
فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حُمران والغافقي لعنهم اللَّه فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء‏ وجاء سودان بن حمران ليضربه فانكبت عليه زوجة عثمان نائلة واتقت السيف بيدها فتغمدها ونفح أصابعها‏ فأطن أصابع يدها فغمز أوراكها وقال‏ :‏ إنها لكبيرة العجيزة‏‏ وضرب عثمان فقتله ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه وقد كان عثمان أعتق من كف منهم فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله ووثب قتيرة على الغلام فقتله وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى ‏[‏الطبري و ابن الأثير‏]‏‏
فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء وأخذ رجل مُلاءة نائلة والرجل يدعى كلثوم بن تجيب فتنحَّت نائلة‏‏ فقال‏ :‏ وَيحَ أمك من عجيزة ما أتمك وبصر به غلام لعثمان فقتله وقُتل وتنادى القوم أبصر رجل من صاحبه وتنادوا في الدار ‏:‏ أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم وليس فيه إلا غِرارتان‏ فقالوا‏ :‏ النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس فيه فالتانئ يسترجع ويبكي والطارئ يفرح وندم القوم‏
وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله‏ فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو قال‏ :‏ ‏"‏إنا للَّه وإنا إليه راجعون رحم اللَّه عثمان وانتصر له‏"‏‏‏ وأتى الخبر طلحة فقال‏ :‏ ‏"‏رحم اللَّه عثمان وانتصر له وللإسلام‏" وقيل له‏ :‏ إن القوم نادمون‏ فقال‏ :‏ تبًَّا لهم وقرأ‏ :‏ ‏{‏ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِم يَرْجِعُونَ‏ }‏ ‏[‏يس‏ :‏ 50‏]‏
وأُتِيَ عليٌّ فقيل‏ :‏ قُتل عثمان فقال‏ :‏ ‏"‏رحم اللَّه عثمان وخلف علينا بخير‏"‏‏ وقيل‏ :‏ ندم القوم فقرأ‏ :‏ ‏{‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ‏.‏‏.‏‏.‏‏. ‏‏}‏ ‏[‏الحشر‏ :‏ 16‏]‏‏‏ الآية‏‏ وطُلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال‏ :‏ لا أشهد قتله‏‏ فلما جاء قتله قال‏ :‏ فررنا من المدينة فدنينا وقرأ‏ :‏ ‏{‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏ }‏ ‏[‏الكهف ‏:‏ 104‏]‏ اللَّهم أندمهم ثم خذهم
وعن جدة الزبير بن عبد اللَّه قالت ‏[‏الطبري‏]‏‏ :‏
لما ضربه المشاقص قال عثمان‏ :‏ ‏"‏بسم اللَّه توكلت على اللَّه‏"‏ وإذا الدم يسيل على اللحية يقطر والمصحف بين يديه فاتكأ على شقه الأيسر وهو يقول‏ :‏ ‏"‏سبحان اللَّه العظيم‏"‏ وهو في ذلك يقرأ المصحف والدم يسيل على المصحف حتى وقف الدم عند قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏ }‏ ‏[‏البقرة‏ :‏ 137‏]‏‏ وأطبق المصحف وضربوه جميعًا ضربة واحدة‏ فضربوه واللَّه بأبي وهو يحيي الليل في ركعة ويصل الرحم ويُطعم الملهوف ويحمل الكَلَّ فرحمه اللَّه‏"‏‏
وعن الزهري قال ‏[‏ابن الأثير‏]‏‏
قُتل عثمان عند صلاة العصر وشدَّ عبدٌ لعثمان أسود على كنانة بن بشر فقتله‏ وشدَّ سودان على العبد فقتله‏‏ ودخلت الغوغاء دار عثمان فصاح إنسان منهم‏ :‏ أيحل دم عثمان ولا يحل ماله‏؟‏ فانتهبوا متاعه‏ فقامت نائلة فقالت‏ :‏ لصوص ورب الكعبة‏!‏ يا أعداء اللَّه ما ركبتم من دم عثمان أعظم‏ أما واللَّه لقد قتلتموه صوَّامًا قوَّامًا يقرأ القرآن في ركعة‏‏ ثم خرج الناس من دار عثمان فأغلق بابه على ثلاثة قتلى‏ :‏
عثمان بن عفان رضى الله عنه
2ـ وعبد عثمان الأسود‏
كنانة بن بشر
وبلغ الخبر عليًا وطلحة والزبير وسعدًا فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر حتى دخلوا على عثمان فقال عليّ لابنيه‏ :‏ كيف يقتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ورفع يده فلطم الحسن وضرب الحسين على صدره‏‏ وشتم محمد بن طلحة وعبد اللَّه بن الزبير وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله فجاء الناس يهرعون إليه يريدون مبايعته فقال :‏ ‏"‏واللَّه إني لأستحي أن أبايع قومًا قتلوا عثمان وإني لأستحي من اللَّه تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن‏"‏‏ فافترقوا وتمت البيعة له‏

مروان ودفاعه عن عثمان
‏[‏الطبري و ابن الأثير‏]‏
لما ألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان فاحترق بعضها قال‏ :‏ ما احترق الباب إلا لما هو أعظم منه‏‏ لا يحركنَّ رجل منكم يده فواللَّه لو كنت أقصاكم لتخطوكم حتى يقتلوني ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري وإني لصابر كما عهد إليَّ رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم لأصرعن مصرعي الذي كتب اللَّه عز وجل لي
فقال مروان‏ :‏ واللَّه لا تقتل وأنا أسمع الصوت‏‏ ثم خرج بالسيف على الباب يتمثل بهذا الشعر‏ :‏
قد علمتْ ذات القرون الميل *** والكف والأنامل الطفول
أبي أروع أول الرعيل        *** بغارة مثل قَطا الشليل
ثم صاح‏ :‏ من يبارز وقد رفع أسفل درعه فجعله في منطقته فوثب إليه ابن النباع فضربه على رقبته من خلفه فأثبته حتى سقط فما ينبض منه عرق فأدخل بيت فاطمة ابنة أوْس جدة إبراهيم بن العديّ وكانت أرضعت مروان وأرضعت له‏‏ وفي رواية أن فاطمة وثبت على عبيد بن رفاع الذي أراد أن يجهز عليه بعد ضربة ابن النباع وقالت ‏:‏ إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح‏ فكفَّ عنه‏‏ فما زالوا يشكرونها لها فاستعملوا ابنها إبراهيم بعد

فظاعة الجرم
لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان‏‏ أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره‏ لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص ومثلوا به وهو يتلو القرآن وكانت تلاوة القرآن نوعًا من العبادة فضربه بعضهم بحديدة وبعضهم ضربه بمشقص وطعنه آخر بتسع طعنات وكسر الآخر ضلعًا من أضلاعه ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى ‏ غضب عليّ وهالته قسوتهم فقال لهم‏ :‏ ‏"‏أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي‏‏‏"‏
لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به‏ ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي لأنهم كانوا يجلُّونه ويوقرونه لمكانه من رسول اللَّه وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام وحسن أخلاقه وعواطفه وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد‏
لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون غلاظ الأكباد قساة القلوب‏ فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول وصهره ومنزلته في الإسلام وخدماته الجليلة وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه‏ :‏ ‏(‏إن الملائكة تستحي منه‏)‏ ‏[‏رواه مسلم وأحمد‏‏]‏‏ رجل سهل لين كريم كفَّ يده ونهى عن سفك دم المسلمين وهو محاصر أشد الحصار مهدد بالقتل وكان مثال الصالحين والقراء للقرآن وعاش محببًا للناس لا يميل إلى الشدة والعنف لقد فتكوا به وهو قابع في بيته يتعبد بتلاوة القرآن ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه‏‏ فأيِّ قلب لا يتفطر وأيِّ دمع لا ينهمر وأيِّ فؤاد لا يذوب كمدًا وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثمًا يوجب القتل

قتلة عثمان وخاذلوه
أجمع أهل السنة على أن عثمان كان إمامًا على شرط الاستقامة إلى أن قُتل‏ وأجمعوا على أن قاتليه قتلوه ظلمًا فإن كان فيهم من استحل دمه فقد كفر ومن تعمد قتله من غير استحلال كان فاسقًا غير كافر‏‏ والذين هجموا عليه واشتركوا في دمه معروفون بقطع بفسقهم
وأما الذين قعدوا عن نصرة عثمان فهم فريقان‏ :‏ فريق كانوا معه في الدار فدفعوا عنه كالحسن بن علي بن أبي طالب وعبد اللَّه بن عمر والمغيرة بن الأخنس وسعيد بن العا، وسائر من كان في الدار من موالي عثمان إلى أن أقسم عليهم بترك القتال وقال لغلمانه‏ :‏ ‏"‏من وضع السلاح فهو حر‏"‏.‏ فهؤلاء أهل طاعة وبر وإحسان‏‏ والفريق الثاني من القعدة عن نصرته فريقان‏ :‏ فريق أرادوا نصرة عثمان فنهاهم عثمان عنها كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وعبد اللَّه بن سلام فهؤلاء معذورون لأنهم قعدوا عنه بأمره والفريق الثاني‏ :‏ قوم من السوقة أعانوا الهاجمين فشاركوهم في الفسق واللَّه حسبهم‏
ودليلنا على براءة عثمان مما قذف به ورود الروايات الصحيحة بشهادة الرسول له صل اللَّه عليه وسلم بالجنة عند تجهيز جيش العسرة وما روي من أنه يدخل الجنة بلا حساب ولا يدخل الجنة إلا مؤمن‏ وقد روي أن النبي صل اللَّه عليه وسلم صعد جبل حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فقال‏ :‏ ‏(‏اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد‏)‏ رواه الدارقطني وفي هذا دليل على أن عثمان قُتل شهيدًا ودليل صحة إمامته إجماع الأمة بعد عمر أن الإمامة لواحد من أهل الشورى وكانوا ستة فاجتمع خمسة عليه فحصل إجماع الأمة على إمامته

كتاب نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية
كتبت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي اللَّه عنه إلى معاوية كتابًا مع النعمان بن بشير وبعثت إليه بقميص عثمان مخضبًا بالدماء‏ وهذا هو نص كتابها‏ :‏
من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان
‏"‏أما بعد فإني أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة‏ وأنقذكم من الكفر‏ ونصركم على العدو وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم فإنه قال‏ :‏ ‏{‏ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏ }‏ ‏[‏الحجرات‏ :‏ 9‏]‏ فإن أمير المؤمنين بُغي عليه ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام وحسن بلائه وأنه أجاب اللَّه وصدق كتابه واتبع رسوله واللَّه أعلم به إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة‏‏ وإني أقص عليكم خبره‏ إني شاهدة أمره كله إن أهل المدينة حصروه في داره وحرسوه ليلهم ونهارهم قيامًا على أبوابه بالسلاح يمنعونه من كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وطلحة والزبير فأمروهم بقتله‏‏ وكان معهم من القبائل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب‏‏ فهؤلاء كانوا أشد الناس عليه‏ ثم إنه حصر فرشق بالنبل فجرح ممن كان في الدار ثلاثة نفر‏‏ فأتاه الناس يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال فنهاهم وأمرهم أن يردوا إليهم نبلهم فردوها عليهم‏‏ فما زادهم ذلك في القتل إلا جرأة وفي الأمر إلا إغراقًا فحرقوا باب الدار‏ ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا‏ :‏ إن ناسًا يريدون أن يأخذوا من الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد يأتوك فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية‏‏ فقال‏ :‏ ما أرى اليوم أحدًا يعدل‏ فدخل الدار وكان معهم نفر ليس على عامتهم سلاح‏ فلبس درعه وقال لأصحابه‏ :‏ لولا أنتم ما لبست اليوم درعي‏‏ فوثب عليه القوم فكلَّمهم ابن الزبير وأخذ عليهم ميثاقًا في صحيفة بعث بها إلى عثمان‏‏ عليكم عهد اللَّه وميثاقه أن لا تقربوه بسوء حتى تكلّموه وتخرجوا‏‏ فوضع السلاح ودخل عليه القوم يقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته ودعوا باللقب‏ فقال‏ :‏ أنا عبد اللَّه وخليفته عثمان فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه قد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به فأتتني ابنة شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي فوطئنا وطئًا شديدًا عُرِّينا من حلينا وحرمة أمير المؤمنين أعظم‏ فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهورًا على فراشه‏‏ وقد أرسلت إليكم بثوبه عليه دمه فإنه واللَّه إن كان أثم من قتله فما سلم من خذله‏‏ فانظروا أين أنتم من اللَّه وأنا أشتكي كل ما مسنا إلى اللَّه عز وجل وأستصرخ بصالحي عباده‏ فرحم اللَّه عثمان ولعن قتلته وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة وشفى منهم الصدور‏"‏‏

رؤيا عثمان رضي الله عنه
‏[‏ابن كثير‏]‏
عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال‏ :‏
أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال ‏:‏ مرحبًا بأخي مرحبًا بأخي‏ أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام‏؟‏ فقال‏ :‏ بلى‏ قال‏ :‏ رأيت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في هذه الخَوْخة ‏[‏الخوخة‏ :‏ كوَّة يدخل منها الضوء إلى البيت‏]‏ وإذا خوخة في البيت‏ فقال‏ :‏ أحصروك‏؟‏ فقلت‏ :‏ نعم‏‏ فقال ‏:‏ عطشوك‏؟‏ فقلت‏ :‏ نعم‏‏ فأدلى لي دلوًا من ماء فشربت حتى رويت فإني لأجد بردًا بين كتفيَّ وبين بدني‏‏ إن شئت نصرت عليهم وإن شئت أفطرت عندنا‏ قال‏ :‏ فاخترت أن أفطر عندهم‏ قال‏ :‏ فقتل عثمان في ذلك اليوم‏
وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان أن عثمان أعتق عشرين مملوكًا ودعا بسراويل فشدَّها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام‏‏ قال‏ :‏ إني رأيت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي‏ :‏ صبرًا فإنك تفطر عندنا القابلة ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه
عن ابن عمر أن عثمان أصبح يحدث الناس‏ قال‏ :‏ رأيت رسول اللَّه صل اللَّه عليه وسلم في المنام‏ قال‏ :‏ يا عثمان أفطر عندنا غدًا فأصبح صائمًا وقتل من يومه‏‏ واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا فكانت مرة نهارًا ومرة ليلًا‏

وصيته
عن العلاء بن الفضل عن أمه‏‏ قال‏ :‏ لما قُتل عثمان فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبًا فيها ‏:‏
‏"‏هذه وصية عثمان‏ :‏ بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏‏ عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن اللَّه يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه‏ إن اللَّه لا يخلف الميعاد‏ عليها يُحيى وعليها يموت‏‏ وعليها يُبعث إن شاء اللَّه‏"‏‏

آخر خطبة لعثمان رضي اللَّه عنه
ذكر الطبري آخر خطبة خطبها عثمان رضي اللَّه عنه في جماعة‏ :‏
‏"‏إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها‏ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى‏ فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على  ما يفنى‏‏ فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه‏ اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده واحذروا من اللَّه الغِيرَ والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابًا ‏{‏ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏ }‏ ‏[‏آل عمران‏ :‏ 103‏]‏‏

دفن عثمان رضي اللَّه عنه
‏[‏الطبري‏]‏‏
قيل‏ :‏ بقي عثمان ثلاثة أيام لم يدفن ثم إن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم كلَّما عليًا في أن يأذن في دفنه فقعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان بين المغرب والعشاء فأتوا به حائطًا من حيطان المدينة يسمى حَش كوكب ‏[‏الحش‏ :‏ البستان‏‏ وحَش كوكب‏ :‏ موقع إلى جانب بقيع الغرقد بالمدينة‏]‏.‏ وهو خارج البقيع فصلَّى عليه جبير بن مطعم وخلفه حكيم بن حزام وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم الأسلمي وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه ثم تركوهم خوفًا من الفتنة‏
وعن الربيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه قال‏ :‏ كنت أحد حملة عثمان بن عفان حين توفي حملناه على باب وإن رأسه يقرع الباب لإسراعنا به وإن بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا حتى واريناه في قبره في حش كوكب
وأرسل عليّ إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه‏
ونزل في قبره بيان وأبو جهم وحبيب وقيل‏ :‏ شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت وكعب بن مالك وعامة من أصحابه‏
وعن الحسن قال‏ :‏ شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه وفي البخاري أنه لم يغسل

مدة حياته
‏[‏الطبري‏]‏‏
قال الواقدي‏ :‏ لا خلاف عندنا أنه قُتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو قول أبي اليقظان‏

عمال عثمان سنة وفاته
‏[‏ابن الأثير‏]‏‏
قتل عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه وعماله على الأمصار كما يلي‏ :‏
عبد اللَّه بن الحضرمي على مكة
القاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف
يعلى بن منية على صنعاء‏
عبد اللَّه بن ربيعة على الجند
عبد اللَّه بن عامر على البصرة خرج منها ولو يول عليها عثمان
سعيد بن العاص على الكوفة‏
عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح على مصر‏
معاوية بن أبي سفيان على الشام
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص
10ـ حبيب بن مسلمة على قنسرين‏
11ـ أبو الأعور بن سفيان على الأردن‏
12ـ علقمة بن حكيم الكناني على فلسطين
13ـ عبد اللَّه بن قيس الفزاري على البحرين‏
14ـ أبو الدرداء على القضاء
15ـ جرير بن عبد اللَّه على قرقيسياء‏
16ـ الأشعث بن قيس على أذربيجان
17ـ عتيبة بن النهاس على حُلوان
18ـ مالك بن حبيب على ماه‏
19ـ النسَير على همذان‏
20ـ سعيد بن قيس على الرَّيِّ‏
21ـ السائب بن الأقرع على أصبهان‏
22ـ حبيش على ماسبذان
23ـ عقبة بن عمرو على بيت المال
24ـ زيد بن ثابت على قضاء عثمان

فتوحات المسلمين في خلافة عثمان رضى الله عنه
حكم عثمان رضي اللَّه عنه اثني عشر عامًا وكانت خلافته فتحًا وفوزًا للمسلمين امتدت سطوتهم إلى بلاد النوبة في مصر واتصلت بحدود الهند حتى ضربت النقود الإسلامية على ما قيل بهراة وأنشؤوا الأساطيل بعد أن لم يكن لهم سفينة واحدة في البحر وغزوا الجزر وحاربوا في البحر وزادت هيبتهم في نفوس الدول الأخرى ولا سيما الروم وفتح المسلمون شمالي أفريقيا وقتلوا آخر ملك للفرس وغزوا الترك وواصلوا الفتوح حتى القوقاز مجتازين الفيافي والقفار والجبال واستولوا على جزيرة قبرص ورودس واستأذن معاوية بفتح القسطنطينية فأذن له فسار إليها ورجع عنها بعد أن حاصرها مدة‏
تمت كل هذه الفتوح العظيمة بسرعة مدهشة لم يعهدها التاريخ من قبل بالرغم من الفتن الداخلية والنقمة على عثمان وبالرغم من لين الخليفة وشدّة حيائه لأن المسلمين كانوا يجاهدون في سبيل اللَّه بقوة إيمانهم وقد ذاقوا حلاوة الفتح والنصر والغنائم فلم يكن يعوقهم عن الفتح عائق وقد قامت هذه الفتوح على يد الولاة الذين ولاَّهم عثمان أمثال الوليد و سعيد بن العاص و عبد اللَّه بن عامر و عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح و معاوية بن ابى سفيان‏‏ فلا غرو إذا قلنا إن عهد عثمان كان عهد فوز للمسلمين كانت هذه الفتوح العظيمة سببًا في اتساع الدنيا على الصحابة‏ فكثرت الأموال حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس يجبى إليها خراج الممالك وهي دار الأمان وقبة الإسلام فبطر لناس بكثرة الأموال والخيل والنعم وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا.‏ ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم

ليست هناك تعليقات