الأحاديث النووية من الحديث السادس الى الحديث العاشر

الحديث السادس

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول :
( إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )
رواه البخاري ومسلم

الشرح

جاء الكلام في هذا الحديث العظيم عن قضيّتين أساسيّتين هما : " تصحيح العمل وسلامة القلب " وهاتان القضيّتان من الأهمية بمكان فإصلاح الظاهر والباطن يكون له أكبر الأثر في استقامة حياة الناس وفق منهج الله القويم

وهنا قسّم النبي
صل الله عليه وسلم الأمور إلى ثلاثة أقسام فقال : ( إن الحلال بيّن والحـرام بيّن ) فالحلال الخالص ظاهر لا اشتباه فيه مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وغير ذلك وكذلك فالحرام المحض واضحةٌ معالمه لا التباس فيه كتحريم الزنا والخمر والسرقة إلى غير ذلك من الأمثلة
أما القسم الثالث فهو الأمور المشتبهة وهذا القسم قد اكتسب الشبه من الحلال والحرام فتنازعه الطرفان ولذلك خفي أمره على كثير من الناس والتبس عليهم حكمه

على أن وجود هذه المشتبـهات لا ينـافي ما تقرر في النصوص من وضوح الدين كقول الله عزوجل :

{ ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }
( النحل : 69 )
وقوله :
{ يبيّن الله لكم أن تضلّوا والله بكل شيء عليم }
( النساء : 176 )
وكذلك ما ورد في السنّة النبويّة نحو قوله صل الله عليه وسلم :
( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك )
رواه أحمد و ابن ماجة
فهذه النصوص وغيرها لا تنافي ما جاء في الحديث الذي بين أيدينا وبيان ذلك : أن أحكام الشريعة واضحة بينة وبعض الأحكام يكون وضوحها وظهورها أكثر من غيرها أما المشتبهات فتكون واضحة عند حملة الشريعة خاصة وخافية على غيرهم ومن خلال ذلك يتبيّن لك سر التوجيه الإلهي لعباده في قوله :
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
( الأنبياء : 7 )
لأن خفاء الحكم لا يمكن أن يعم جميع الناس فالأمة لا تجتمع على ضلالة
وفي مثل هذه المشتبهات وجّه النبي
صل الله عليه وسلم أمته إلى سلوك مسلك الورع وتجنب الشبهات فقال :
( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )
فبيّن أن متقي الشبهات قد برأ دينه من النقـص لأن من اجتنب الأمور المشتبهات سيجتنب الحرام من باب أولى كما في رواية أخرى للبخاري وفيها :
( فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك )
وإضافةً إلى ذلك فإن متقي الشبهات يسلم من الطعن في عرضه بحيث لا يتهم بالوقوع في الحرام عند من اتضح لهم الحق في تلك المسألة أما من لم يفعل ذلك فإن نفسه تعتاد الوقوع فيها ولا يلبث الشيطان أن يستدرجه حتى يسهّل له الوقوع في الحرام

وبهذا المعنى جاءت الرواية الأخرى لهذا الحديث :
( ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان )
وهكذا فإن الشيطان يتدرّج مع بني آدم وينقلهم من رتبة إلى أخرى فيزخرف لهم الانغماس في المباح ولا يزال بهم حتى يقعوا في المكروه ومنه إلى الصغائر فالكبائر ولا يرضى بذلك فحسب بل يحاول معهم أن يتركوا دين الله ويخرجوا من ملة الإسلام والعياذ بالله وقد نبّه الله عباده وحذّرهم من اتباع خطواته في الإغواء فقال عزوجل في محكم كتابه :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر }
( النور : 21 )
فعلى المؤمن أن يكون يقظا من انزلاق قدمه في سبل الغواية متنبها إلى كيد الشيطان ومكره
وفيما سبق ذكره من الحديث تأصيل لقاعدة شرعية مهمة وهي : وجوب سد الذرائع إلى المحرمات وإغلاق كل باب يوصل إليها فيحرم الاختلاط ومصافحة النساء والخلوة بالأجنبية لأنه طريق موصل إلى الزنا ومثل ذلك أيضاً : حرمة قبول الموظف لهدايا العملاء سدا لذريعة الرشوة

ثم ضرب النبي
صل الله عليه وسلم مثلا لإيضاح ما سبق ذكره وتقريباً لصورته في الأذهان فقال :
( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )
أي : كالراعي الذي يرعى دوابّه حول الأرض المحمية التي هي خضراء كثيرة العشب فإذا رأت البهائم الخضرة في هذا المكان المحمي انطلقت إليها فيتعب الراعي نفسه بمراقبة قطعانه بدلاً من أن يذهب إلى مكان آخر وقد يغفل عن بهائمه فترتع هناك بينما الإنسان العاقل الذي يبحث عن السلامة يبتعد عن ذلك الحمى كذلك المؤمن يبتعد عن ( حمى ) الشبهات التي أُمرنا باجتنابها ولذلك قال :
( ألا وأن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه )
فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقاً وقد حمى الشريعة بسياج محكم متين فحرّم على الناس كل ما يضرّهم في دينهم ودنياهم
ولما كان القلب أمير البدن وبصلاحه تصلح بقية الجوارح أتبع النبي
صل الله عليه وسلم مثله بذكر القلب فقال :
( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )
وسمّي القلب بهذا الاسم لسرعة تقلبه كما جاء في الحديث :

( لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا )
رواه أحمد و الحاكم
لذلك كان أكثر دعاء النبي صل الله عليه وسلم كما في الترمذي :
( يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك )
وعلاوة على ما تقدّم : فإن مدار صلاح الإنسان وفساده على قلبه ولا سبيل للفوز بالجنة ونعيم الدنيا والآخرة إلا بتعهّد القلب والاعتناء بصلاحه :
{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }
( الشعراء : 88-89 )
ومن أعجب العجاب أن الناس لا يهتمون بقلوبهم اهتمامهم بجوارحهم فتراهم يهرعون إلى الأطباء كلما شعروا ببوادر المرض ولكنهم لايبالون بتزكية قلوبهم حتى تصاب بالران ويطبع الله عليها فتغدو أشد قسوة من الحجارة والعياذ بالله
والمؤمن التقي يتعهد قلبه ويسد جميع أبواب المعاصي عنه ويكثر من المراقبة لأنه يعلم أن مفسدات القلب كثيرة وكلما شعر بقسوة في قلبه سارع إلى علاجه بذكر الله تعالى حتى يستقيم على ما ينبغي أن يكون عليه من الهدى والخير نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا ويصرّفها على طاعته وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه والحمد لله رب العالمين

الحديث السابع

عن تميم بن أوس رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال :
( الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )
رواه البخاري ومسلم

الشرح

حديثنا الذي نتناوله في هذ المقال حديث عظيم ويكفيك دلالة على أهميته أنه يجمع أمر الدين كله في عبارة واحدة وهي قوله صل الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) فجعل الدين هو النصيحة كما جعل الحج هو عرفة إشارةً إلى عظم مكانها وعلو شأنها في ديننا الحنيف
والنصيحة ليست فقط من الدين بل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام فإنهم قد بعثوا لينذروا قومهم من عذاب الله وليدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه ويبين لهم أهداف دعوته فيقول :

{ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم }
( الأعراف : 62 )
وعندما أخذت الرجفة قوم صالح عليه السلام قال :
{ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين }
( الأعراف : 79 )
ويترسّم النبي
صل الله عليه وسلم خطى من سبقه من إخوانه الأنبياء ويسير على منوالهم، فيضرب لنا أروع الأمثلة في النصيحة وتنوع أساليبها ومراعاتها لأحوال الناس واختلافها وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد موقفه الحكيم عندما بال الأعرابي في المسجد فلم ينهره بل انتظره حتى فرغ من حاجته يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الحادثة فيقول : " بال أعرابيٌ في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صل الله عليه وسلم :
( دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
رواه البخاري
وفي الحديث الذي بين أيدينا حدد النبي
صل الله عليه وسلم مواطن النصيحة وأول هذه المواطن : النصيحة لله وهناك معان كثيرة تندرج تحتها ومن أعظمها : الإخلاص لله تبارك وتعالى في الأعمال كلها ومن معانيها كذلك : أن يديم العبد ذكر سيده ومولاه في أحواله وشؤونه فلا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ومن النصيحة لله : أن يذبّ عن حياض الدين ويدفع شبهات المبطلين داعيا إلى الله بكل جوارحه ناذرا نفسه لخدمة دين الله إلى غير ذلك من المعاني
وأصل النصيحة : من الإخلاص كما يقال : " نصح العسل " أي : خلصه من شوائبه وإذا كان كذلك فإن إخلاص كل شيء بحسبه فالإخلاص لكتاب الله أن تحسن تلاوته كما قال عزوجل :

{ ورتل القرآن ترتيلا }
( المزمل : 4 )
وأن تتدبر ما فيه من المعاني العظيمة وتعمل بما فيه ثم تعلمه للناس
ومن معاني النصيحة لرسول الله
صل الله عليه وسلم
: تصديقه فيما أخبر به من الوحي والتسليم له في ذلك حتى وإن قصُر فهمنا عن إدراك بعض الحقائق التي جاءت في سنّته المطهّرة انطلاقا من إيماننا العميق بأن كل ما جاء به إنما هو وحي من عند الله ومن معاني النصح لرسول الله صل الله عليه وسلم : طاعته فيما أمر به واتباعه في هديه وسنته وهذا هو البرهان الساطع على محبته صل الله عليه وسلم
ثم قال
صل الله عليه وسلم : ( ولأئمة المسلمين ) والمراد بهم العلماء والأمراء على السواء فالعلماء هم أئمة الدين والأمراء هم أئمةٌ الدنيا فأما النصح للعلماء : فيكون بتلقّي العلم عنهم والالتفاف حولهم ونشر مناقبهم بين الناس حتى تتعلّق قلوب الناس بهم، ومن النصح لهم : عدم تتبع أخطائهم وزلاتهم فإن هذا من أعظم البغي والعدوان عليهم وفيه من تفريق الصف وتشتيت الناس ما لا يخفى على ذي بصيرة
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فتكون بإعانتهم على القيام بما حمّلوا من أعباء الولاية وشد أزرهم على الحق وطاعتهم في المعروف

والموطن الرابع من مواطن النصيحة : عامة الناس وغاية ذلك أن تحب لهم ما تحب لنفسك فترشدهم إلى ما يكون لصالحهم في معاشهم ومعادهم وتهديهم إلى الحق إذا حادوا عنه وتذكّرهم به إذا نسوه متمسكا بالحلم معهم والرفق بهم وبذلك تتحقق وحدة المسلمين فيصبحوا كالجسد الواحد :

( إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )

الحديث الثامن

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى )
رواه البخاري ومسلم

الشرح

بعث الله سبحانه وتعالى الرسل الكرام وأنزل معهم الكتب العِظام لينشروا الدين في أرجاء المعمورة فيكون ظاهرا عاليا على سائر الأديان والملل كما بيّن سبحانه ذلك في قوله :
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله }
( البقرة : 193 )
وكانت هذه المهمة محور دعوة كل أنبياء الله فقاموا جميعا لتحقيق هذه الغاية باذلين في ذلك الغالي والنفيس والمال والنفس داعين إلى الله بالليل والنهار والسرّ والعلانية فانقسم الناس عند ذلك إلى فريقين : فريق قذف الله في قلبه أنوار الحق فانشرح صدره للإسلام فوحّد ربّه واتّبع شريعته وفريق طمس الله بصيرته وجعل على قلبه غشاوة فأظلم قلبُه وأبى أن يقبل دعوة الحق ولقد أوضح الله تعالى حقيقة الفريقين في قوله تعالى :

{ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم }
( محمد : 3 )
إن انقسام الناس إلى مصدّق ومكذّب ومؤمن وكافر أمر حتمي تجاه كل ما هو جديد وتجاه كل دين أو معتقد وإذا كان انقسامهم أمرا لازما فإنه يجب على ذلك الدين أو ذلك المعتقد أن يتعامل مع كلا الفريقين وجميع الطائفتين وهذا عين ما جاءت به شرائع الله عزوجل ومنها الإسلام

لقد أمرنا الله تعالى في دين الإسلام أن ندعو المعرضين والمكذبين بالحسنى وأن نجتهد في ذلك بل أن نجادلهم بالتي هي أحسن فإن أبوا كان لزاما عليهم ألا يمنعوا هذا الخير من أن يصل إلى غيرهم ووجب عليهم أن يفسحوا لذلك النور لكي يراه سواهم فإن أصروا على مدافعة هذا الخير وحجب ذلك النور كانوا عقبة وحاجزاً ينبغي إزالته ودفع شوكته وهذا مما أشار إليه النبي
صل الله عليه وسلم في قوله :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة )
فهو صل الله عليه وسلم مأمور بنشر دين الإسلام واستئصال شوكة كل معاند أو معارض وتلك هي حقيقة الدين وغايته
لكن ما سبق لا يدل على أن دين الإسلام دينٌ متعطشٌ للدماء وإزهاق أرواح الأبرياء بل هو دين رحمةٍ ورأفةٍ حيث لم يكره أحدا على الدخول فيه بشرط ألا يكون عقبةً أو حاجزاً كما تقدم وقد قال تعالى :

{ لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي }
( البقرة : 256 )
ثم بيّن النبي
صل الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا الأمور التي تحصل بها عصمة الدم والنفس وهي : النطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فمن فعل ذلك فقد عصم نفسه وماله وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه العصمة المطلقة أو العصمة بالإسلام وحقيقتها : أن يدخل المرء في دين الإسلام ويمتثل لأوامره وينقاد لأحكامه فمن فعل ذلك كان مسلما له ما للمسلمين وعليه ما عليهم
أما العصمة المقيّدة أو العصمة لغير المسلمين فحقيقتها : أن كل كافر غير محارب أي : المُستأمن والذميّ والمعاهَد فإنه معصوم الدمّ بشروط معينة وضّحها العلماء في كتبهم
وإذا أردنا أن نوضّح حقيقة العصمة بالإسلام فنقول : إن من تلفّظ بالشهادتين فإننا نقبل منه ظاهر قوله ونكل سريرته إلى الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى لم يأمرنا أن ننقب عن قلوب الناس أونبحث في مكنونات صدروهم أسوتنا في ذلك رسول الله
صل الله عليه وسلم لكن هذا لا يعني ترك الانقياد للدين أو العمل بأحكامه فإن من شروط لا إله إلا الله الانقياد لها والعمل بمقتضياتها
أما إقامة الصلاة فهي من أعظم مظاهر الانقياد والعبودية بل إن تاركها ليست له عصمة يشهد لذلك قوله تعالى :

{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }
( التوبة : 11 )
فدل على أنهم إن لم يصلوا فلا أخوة لهم ولما أراد خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يضرب عنق ذي الخويصرة - الذي اعترض على قسمة النبي صل الله عليه وسلم للمال - نهاه عن ذلك قائلا :
( لا لعله أن يكون يصلي )
رواه البخاري و مسلم وهذا يقتضي أنه لو كان تاركا للصلاة لما منع خالدا من قتله
وإيتاء الزكاة المذكور في قوله
صل الله عليه وسلم : ( ويؤتوا الزكاة ) هي من مظاهر الانقياد المالية لله تعالى ولا يعني ذكرها في الحديث أن مجرد الامتناع عن أدائها كفر مخرج من الملة بل في ذلك تفصيل آخر ليس هذا مجال بسطه
وإذا تحققت هذه الأمور الثلاثة في شخص أو فئة حصلت لهم العصمة التامة فتصان دماؤهم وأموالهم وأنفسهم إلا بسبب حق من حقوق الإسلام وذلك بأن يرتكب الإنسان ما يبيح دمه كالقتل بغير حق والزنى مع الإحصان والردة بعد الإسلام

وبذلك يتبين لنا أن الإسلام دين يدعوا الناس جميعا إلى الالتزام بأحكام الله تعالى فإذا أدوا ما عليهم من واجبات فقد كفل لهم حقوقهم وصان أعراضهم وأموالهم

الحديث التاسع

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول :
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )
رواه البخاري ومسلم

الشرح

لقد ارتضى الله سبحانه للبشرية الإسلام دينا وجعله الدين الخاتم الذي لا يُقبل من أحدٍ سواه وكان من سمات هذا الدين قوامه على الأوامر والنواهي فهو يأمر بكل فضيلة وينهى عن كل رذيلة ومن هنا جاء هذا الحديث ليبين الموقف الصحيح تجاه هذه الأوامر والنواهي
وقد جاء في صحيح مسلم بيان سبب ورود هذا الحديث فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله
صل الله عليه وسلم فقال :
( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا )
فقال رجل : أكلُّ عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صل الله عليه وسلم :
( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم )
ثم قال :
( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )
وفي رواية أخرى :
( ذروني ما تركتكم ) فأرشد صحابته إلى ترك السؤال عما لا يُحتاج إليه
ولا يُفهم من النهي عن كثرة السؤال ترك السؤال عما يحتاجه المرء فليس هذا مراد الحديث بل المقصود منه النهي عن السؤال عما لا يحتاجه الإنسان مما يكون على وجه الغلو أو التنطّع أو محاولة التضييق في أمرٍ فيه سعة

وإذا نظرت إلى منهج الصحابة في سؤال النبي
صل الله عليه وسلم لوجدت أسئلتهم على قسمين :

القسم الأول : السؤال عما قد وقع لهم أو أشكل عليهم فمثل هذه الأسئلة مأمور بها شرعا لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بسؤال أهل العلم وها هم الصحابة رضوان الله عليهم قد ترجموا هذا الأمر عمليا فقد سألوا عن الفأرة التي سقطت في سمن وسألوا عن متعة الحج وسألوا عن حكم اللقطة إلى غير ذلك

القسم الثاني : سؤالهم عما يتوقعون حصوله فعلا ومن ذلك : ما رواه الإمام مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صل الله عليه وسلم : يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مُدى فقال :
( ما أنهر الدم وذكر عليه اسم الله فكُل ليس السن والظفر )
ومن ذلك أيضا سؤالهم عن الصلاة أيام الدجال عندما يكون اليوم كالسنة فأجابهم : ( اقدروا له قدره )
وفي الحديث إرشاد للمسلم إلى كيفية التعامل مع الأحكام والنصوص الشرعية ففي قوله
صل الله عليه وسلم
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه )
أمر باجتناب كل ما نهى عنه الشرع سواء أكان محرما أم مكروها وتأكيدا للمعنى السابق جاء التعبير بلفظة ( اجتنبوا ) فهي لفظة تعطي معنى المباعدة فكأنك تكون في جانب والمعاصي في الجانب الآخر لذلك هي أبلغ في معنى الترك
أما فيما يتعلق بالأوامر فلم نُكلف إلا بما نستطيع وما يدخل في حدود الطاقة فإذا عجز المكلّف عن أمرٍ جاءه الشرع بالتخفيف وهذا يدل على يسر الإسلام وسماحته كما قال الله عزّوجل :

{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
( البقرة : 185 )
وانطلاقا من هذا المعنى استنبط العلماء قاعدة فقهيّة مهمة وهي قاعدة : ( المشقة تجلب التيسير ) وجعلوها مبدأ ترتكز عليه كثير من الأحكام الفقهيّة
والملاحظ هنا أن الشريعة قد شددت في جانب المنهيات أكثر من المأمورات فعلقت تنفيذ الأوامر على الاستطاعة بخلاف النهي وذلك لأن الشريعة الغرّاء تسعى دائما للحد من وقوع الشر والحيلولة دون انتشاره ولا يكون ذلك إلا بالابتعاد عما حرّم الله عزوجل ولذلك يقول الله تعالى في محكم تنزيله :

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان }
( النور : 21 )
فحرّم الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الحرام ومن باب أولى تحريم الحرام نفسه
ومن خلال ما سبق يتبين لك أيها القاريء الكريم خطأ كثير من المسلمين الذين يجتهدون في فعل الطاعات مع تساهل عظيم في ارتكاب المحرمات فتراه يصوم مع الناس إذا صاموا فإذا جنّ عليه الليل لم يتورّع عن مقارفة الذنوب وارتكاب المعاصي ناسيا - أو متناسيا - أن رسول الله
صل الله عليه وسلم قال مرشدا أمته :
( اتق المحارم تكن أعبد الناس )
رواه الترمذي
ولا يعني ذلك التهوين من أمر الطاعة أو التساهل في أمرها لكن كما قال الحسن البصري رحمه الله : " ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه "
ومن دلالات هذا الحديث أنه يربي المسلم على الجدية في التعامل مع هذا الدين كما قال الله عزوجل :

{ إنه لقول فصل وما هو بالهزل }
( الطارق : 13-14 )
وهذه الجدّية تدعوه إلى أن يقبل بكليّته على تعلّم ما ينفعه من العلم ويجتهد في تربية نفسه وتزكيتها مجرّدا قلبه عن كل ما يشغله عن هذا الهدف الذي جعله نُصب عينيه
وحتى يرسّخ النبي
صل الله عليه وسلم فيهم هذا المبدأ بيّن لهم خطورة الحيدة عن هذا المنهج الدقيق وأثر ذلك في هلاك الأمم السابقة والتي تكلّفت في أسئلتها واختلفت على أنبيائها فكان سؤالهم تشديدا عليهم وكان اختلافهم سببا لهلاكهم وخير مثال على ذلك ما كان عليه قوم موسى عليه السلام فإنهم لما طُلب منهم ذبح بقرة تنطّعوا في السؤال عن أوصافها وتكلّفوا في ذلك وكان في سعتهم أن يأتوا بأي بقرة ولكنهم أبوا ذلك فشدّد الله عليهم ولما اختلفوا على أنبيائهم لم تقبل منهم التوبة إلا بقتل أنفسهم وعاقبهم الله بالتيه أربعين سنة والجزاء من جنس العمل

الحديث العاشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى :
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا }
( المؤمنون : 51 )
وقال تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }
( البقرة : 172 )
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذّي بالحرام فأنّى يُستجاب له ؟ )
رواه مسلم

الشرح

الدعاء روضة القلب وأنس الروح فهو صلة بين العبد وربه يستجلب به الرحمة ويستعدي به على من ظلمه ومن عظيم شأنه وعلو مكانه أن جعله رسول الله صل الله عليه وسلم أصل العبادة ولبها

وإذا كان للدعاء هذه المكانة العظيمة فإنّه ينبغي على العبد أن يأتي بالأسباب التي تجعله مقبولا عند الله تعالى ومن جملة تلك الأسباب : الحرص على الحلال في الغذاء واللباس وهذا ما أشار إليه النبي صل الله عليه وسلم في هذا الحديث

ولقد أشار النبي صل الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى حقيقة مهمة وهي :
( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا )
فبيّن أنه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص وعيب فهو الطيب الطاهر المقدس المتصف بصفات الكمال ونعوت الجمال ومادام كذلك فإنه : ( لا يقبل إلا طيبا ) فهو سبحانه إنما يقبل من الأعمال ما كان طيبا خالصا من شوائب الشرك والرياء كما قال سبحانه في محكم كتابه :
{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }
( الكهف : 110 )
كما أنّه تعالى لا يقبل من الأموال إلا ما كان طيبا من كسب حلال لذلك قال رسول الله صل الله عليه وسلم في معرض ذكر الصدقة :
( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه...)
الحديث وهو سبحانه أيضا لا يقبل من الأقوال إلا الطيب كما قال تعالى :
{ إليه يصعد الكلم الطيب }
( فاطر : 10 )
وحتى يتحقق للمؤمن هذه الطيبة التي ينشدها فإنّه ينبغي عليه أن يحرص على تناول الطيب من الرزق كما قال تعالى :

{ كلوا من الطيبات واعملوا صالحا }
( المؤمنون : 51 )
فإذا امتثل المسلم ما أُمر به حصل له من الصفاء النفسي والسمو الروحي ما يقرّبه من ربّه فيكون ذلك أدعى لإجابة دعائه
ومن ناحية أخرى يجب على العبد أن ينأى بنفسه عن كل ما حرّمه الله تعالى عليه من مطعوم أو مشروب أو ملبوس لأن الحرام سيورده موارد الهلاك يقول النبي
صل الله عليه وسلم في ذلك :
( لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به )
وقد ورد عن سلفنا الصالح رحمهم الله ما يدل على حرصهم على تلك المعاني السامية فعن ميمون بن مهران رحمه الله أنه قال :

" لا يكون الرجل تقيا حتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه " ويقول وهيب بن الورد : " لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام " ويقول يحيى بن معاذ : " الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء وأسنانه لقم الحلال "
ثم ضرب لنا النبي
صل الله عليه وسلم مثلا عظيما لرجل قد أتى بأسباب إجابة الدعاء غير أنه لم يكن يتحرّى الحلال الطيب فيما يتناوله فهذا الرجل :

أولا : ( يطيل السفر ) والسفر بمجرّده يقتضي إجابة الدعاء فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال :
( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المسافر )
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة
والمسافر يحصل له في الغالب انكسار نفس نتيجة المشاق التي تعتريه في سفره وهذا يجعله أقرب لإجابة دعائه

ثانيا : ( أشعث أغبر ) وهذا يدل على تذلّله وافتقاره بحصول التبذّل في هيئته وملابسه ومن كانت هذه حاله كان أدعى للإجابة إذ إن فيه معنى الخضوع لله تعالى والحاجة إليه

ثالثا : ( يمد يديه إلى السماء ) والله سبحانه وتعالى كريم لا يرد من سأله روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صل الله عليه وسلم قال :
( إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين )

رابعا : ما ورد من إلحاحه في الدعاء : ( يا رب يا رب ) وهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء ولذلك كان النبي صل الله عليه وسلم يكرر ما يدعوا به ثلاثا
فهذه أربعة أسباب لإجابة الدعاء قد أتى بها كلها ولكنه أتى بمانع واحد فهدم هذه الأسباب الأربعة كما قال النبي
صل الله عليه وسلم : ( فأنّى يُستجاب له ؟ ) وهذا الاستفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد لمن كانت هذه حاله
وأخيراً : فما أحوجنا إلى أن نقف مع أنفسنا وقفةً حازمة نتحرّى فيها ما نأكله من طعام أونلبسه من لباس حتى يكون الدعاء مقبولا عند الله نسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبه عمّن سواه

ليست هناك تعليقات