الأحاديث النووية من الحديث السادس عشر الى الحديث العشرون

الحديث السادس عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صل الله عليه وسلم : " أوصني " قال : ( لا تغضب ) فردّد قال : ( لا تغضب ) رواه البخاري

الشرح

خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب الأرض بجميع أنواعه الأبيض منها والأسود والطيب والرديء والقاسي واللين فنشأت نفوس ذرّيته متباينة الطباع مختلفة المشارب فما يصلح لبعضها قد لا يناسب غيرها ومن هذا المنطلق راعى النبي صل الله عليه وسلم ذلك في وصاياه للناس إذ كان يوصي كل فرد بما يناسبه وما يعينه في تهذيب نفسه وتزكيتها
فها هم صحابة رسول الله
صل الله عليه وسلم يتسابقون إليه كي يغنموا منه الكلمة الجامعة والتوجيه الرشيد وكان منهم أبو الدرداء رضي الله عنه كما جاء في بعض الروايات فأقبل بنفس متعطشة إلى المربي العظيم يسأله وصية تجمع له أسباب الخير في الدنيا والآخرة فما زاد النبي صل الله عليه وسلم على أن قال له : ( لا تغضب )
وبهذه الكلمة الموجزة يشير النبي
صل الله عليه وسلم إلى خطر هذا الخلق الذميم فالغضب جماع الشر ومصدر كل بليّة فكم مُزّقت به من صلات وقُطعت به من أرحام وأُشعلت به نار العداوات وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات التي يندم عليها صاحبها ساعة لا ينفع الندم
إنه غليان في القلب وهيجان في المشاعر يسري في النفس فترى صاحبه محمر الوجه تقدح عينيه الشرر فبعد أن كان هادئا متزنا إذا به يتحول إلى كائن آخر يختلف كلية عن تلك الصورة الهادئة كالبركان الثائر الذي يقذف حممه على كل أحد

ولهذا كان النبي
صل الله عليه وسلم يكثر من دعاء : ( اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ) رواه أحمد فإن الغضب إذا اعترى العبد فإنه قد يمنعه من قول الحق أو قبوله وقد شدّد السلف الصالح رضوان الله عليهم في التحذير من هذا الخلق المشين فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : " أول الغضب جنون وآخره ندم وربما كان العطب في الغضب " ويقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما : " مكتوبٌ في الحِكم : يا داود إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم " وأُثر عن أحد الحكماء أنه قال لابنه : "يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة فأقل الناس غضباً أعقلهم " وقال آخر : " ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت "
ومن الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين في كتابه ما جاء في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } ( آل عمران : 134 ) فهذه الآية تشير إلى أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة مراتب : فمنهم من يكظم غيظه ويوقفه عند حده ومنهم من يعفوا عمن أساء إليه ومنهم من يرتقي به سمو خلقه إلى أن يقابل إساءة الغير بالإحسان إليه

وهذا يقودنا إلى سؤال مهم : ما هي الوسائل التي تحد من الغضب وتعين العبد على التحكم بنفسه في تلك الحال ؟ : لقد بينت الشريعة العلاج النافع لذلك من خلال عدة نصوص وهو يتلخص فيما يأتي :

أولا : اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء فالنفوس بيد الله تعالى وهو المعين على تزكيتها يقول الله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ( غافر : 60 )

ثانيا : التعوذ بالله من الشيطان الرجيم فهو الذي يوقد جمرة الغضب في القلب يقول الله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } ( فصلت : 36 ) وقد مرّ النبي صل الله عليه وسلم على رجلين يستبّان فأحدهما احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صل الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) وعلى الغاضب أن يكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار فإن ذلك يعينه على طمأنينة القلب وذهاب فورة الغضب

ثالثا : التطلع إلى ما عند الله تعالى من الأجور العظيمة التي أعدها لمن كظم غيظه فمن ذلك ما رواه أبو داود بسند حسن أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء )

رابعا : الإمساك عن الكلام ويغير من هيئته التي عليها بأن يقعد إذا كان واقفا ويضطجع إذا كان جالسا كما قال النبي صل الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) رواه أبو داود

خامسا : الابتعاد عن كل ما ما يسبب الغضب والتفكر فيما يؤدي إليه

سادسا : تدريب النفس على الهدوء والسكينة في معالجة القضايا والمشاكل في شتى شؤون الدنيا والدين

                                                                   الحديث السابع عشر

عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) رواه مسلم

الشرح

إن المتطلع إلى مبادئ ديننا الحنيف ليبهره جوانب التكامل في تشريعاته مما يجعله موقنا بتفرد الإسلام في شموليته فهو يدعو الإنسان إلى أن يحسن صلته بخالقه وفي الوقت ذاته يضع الأسس المتينة والقواعد الراسخة في تعامله مع غيره من الخلق
ومن هنا تظافرت نصوص الكتاب والسنة مؤيدة لهذه الرؤية وموضحة لمعالمها وجعلت الإحسان هو الأساس الذي تنبثق منه هذه العلاقات وقد نبهنا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه العزيز فقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ( النحل : 90 ) فبيّن وجوب العمل بمقتضى الإحسان وأحاط العاملين بها بمعيّته الخاصة وشملهم برعايته وتأييده كما قال عزوجل : { وإن الله لمع المحسنين } ( العنكبوت : 69 ) كذلك فإنه قد بيّن السبل لتحقيق ذلك في الكثير من المواضع ومن جملتها الحديث الذي بين أيدينا والذي جاء موضحا كيفية الإحسان إلى الخلق

فبعد أن قرّر النبي
صل الله عليه وسلم وجوب الإحسان في كل ميدان وعلى كل شيء وأكّد على ذلك بقوله : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) عرّج بعدها بذكر مثالين اثنين يلزم الإنسان المسلم فيهما مراعاة الإحسان والمحافظة عليه
ففي قوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) توجيه نبوي إلى الإحسان في هيئة القتل ويكون ذلك بالإسراع في إزهاق النفس التي أبيح دمها حال القصاص أو حال الحرب ولئن جاز للمسلمين معاملة من حاربهم بالمثل فإن ذلك لا يبيح لهم التمثيل بالقتلى والتشويه للجثث بدون سبب شرعي لما في ذلك من منافاة للمثل العليا التي يدعو إليها ديننا الحنيف

ويدخل ضمن الأمر بإحسان القتل تحريم التعذيب بالنار وليس ذلك للبشر فحسب بل حتى للحيوانات والحشرات فقد روى الإمام البخاري رحمه الله أن النبي
صل الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) وهذا يؤكد حرص الإسلام على اختيار أيسر الطرق المؤدية إلى خروج الروح عند تحتّم القتل
ثم انتقل الحديث بعد ذلك إلى قضية الإحسان في الذبح بآدابه الراقية التي تجسد معاني الرفق بالحيوان وقد ذكر العلماء هذه الآداب في كتب الفقه وأسهبوا في شرحها فمن ذلك : أن يذبح البهيمة بآلة حادة تعجّل من خروج روحها وإنهار دمها فلا تتعذب كثيرا يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أمر النبي
صل الله عليه وسلم بحد الشفار " وقد جعل العلماء ذلك شرطا في آلة الذبح كما جاء في الحديث : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر ) رواه الشيخان
ومن الإحسان في الذبح ألا يقوم الذابح بحد شفرته أمام الذبيحة فقد مر رسول الله
صل الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال : ( أتريد أن تميتها موتات ؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم وكذلك فإنه يستحب له أن لا يذبح ذبيحة بحضرة أخرى ولا يظهر السكين أمام الذبيحة إلا عند مباشرته للذبح
ومن الرفق بالذبيحة أن تساق إلى المذبح سوقا هينا فلا يجرّها بأذنها أو يسوقها سوقا عنيفا كما ذكر ذلك الإمام أحمد فإذا أراد أن يذبحها فعليه أن يضجعها على شقها الأيسر برفق لما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله
صل الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن فأتى به ليضحي به فقال لها : ( يا "عائشة" ، هلمي المدية ) ثم قال : ( اشحذيها بحجر ) ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه " وقد صرّح الإمام النووي بوقوع الإجماع على هذه المسألة واستحب الشافعية أيضا عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها
وبعد أن يسمّي يسرع في قطع الأوداج وإنهار الدم حتى يريح الذبيحة ولا يباشر بقطع شيء منها أو سلخها حتى تتم الذكاة وتخرج الروح ولا ينبغي له أن يبالغ في الذبح حتى يقطع الرأس فإن ذلك مناف للإحسان إليها

إن كل ما سبق يزيد المرء إيمانا بكمال هذا الدين وتناوله لجميع نواحي الحياة وبهذا المنهج الرباني الذي يتألق سموا بتلك المعاني السامية يمكن للبشرية أن تخرج من ظلمات التيه لتقتبس من نور الإسلام وترتبط بخالقها جلّ وعلا برباط محكم وثيق فتعيش آمنة مطمئنة وهذا ما نتطلع إلى حصوله بإذن الله العلي القدير

                                                                   الحديث الثامن عشر

عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )
رواه الترمذي وقال : حديث حسن

الشرح

التقوى هي سفينة النجاة ومفتاح كل خير كيف لا ؟ وهي الغاية العظمى والمقصد الأسمى من العبادة ؟ إنها محاسبة دائمة للنفس وخشية مستمرة لله وحذر من أمواج الشهوات والشبهات التي تعيق من أراد السير إلى ربه إنها الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعدادُ ليوم الرحيل
من هنا كانت التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه قال تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } ( النساء : 131 ) وهي وصية النبي
صل الله عليه وسلم لجميع أمته ووصية السلف بعضهم لبعضهم فلا عجب إذا أن يبتدأ بها رسول الله صل الله عليه وسلم نصيحته ل معاذ بن جبل و أبي ذر رضي الله عنهما
والتقوى ليست كلمة تقال أو شعاراً يرفع بل هي منهج حياة يترفّع فيه المؤمن عن لذائذ الدنيا الفانية ويجتهد فيه بالمسابقة في ميادين الطاعة ويبتعد عن المعاصي والموبقات وقد جسد أبي بن كعب رضي الله عنه هذا المعنى لما سئل عن التقوى ؟ فقال : " هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال : ذاك التقوى " وقد أخذ ابن المعتز رحمه الله هذا المعنى وصاغه بأبيات بديعة من الشعر فقال :

خل الذنوب صغيـــرهــا وكبيــرهــا ذاك الـتـقــــى
واصنع كمـــاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن صغيـــــــرة إن الجبـال من الحصــــى

ومن تمام التقوى أن يترك العبد ما لا بأس به خشية أن يقع في الحرام ويشهد لذلك قول النبي
صل الله عليه وسلم : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) رواه مسلم وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : " تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما فيكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بيّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 - 8 ) " فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ولا شيئا من الشر أن تتقيه
وفي قوله
صل الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) تنبيه للمؤمن على ملازمة التقوى في كل أحواله انطلاقاً من استشعاره لمراقبة الله له في كل حركاته وسكناته وسره وجهره وفي قوله صل الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) إشارة إلى حقيقة التقوى وأنها خشية الله في السرّ والعلن وحيث كان الإنسان أو صار فمن خشي الله أمام الناس فحسب فليس بتقي وقد قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } ( ق : 33 - 34 )
وقد يظن ظان أن المتقي معصوم من الزلل وهذا خطأ في التصور فإن المتقي قد تعتريه الغفلة فتقع منه المعصية أو يحصل منه التفريط في الطاعة وهذه هي طبيعة البشر المجبولة على الضعف ولكن المتقي يختلف عن غيره بأنه إذا تعثّرت به قدمه بادر بالتوبة إلى ربه والاستغفار من ذنبه ولم يكتف بذلك بل يتبع التوبة بارتياد ميادين الطاعة والإكثار من الأعمال الصالحة كما أمره ربه في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } ( هود : 114 ) ومن هنا قال النبي
صل الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )
ولئن كانت التقوى صلة مع الله تبارك وتعالى وتقرّبا إليه فهي أيضا إحسان إلى الخلق وطيبة في التعامل وإعطاء كل ذي حق حقه وهكذا يظهر لنا التكامل والتناسق في القيم الإيمانية فإن الأخلاق الحميدة رافد من روافد التقوى وشعبة من شعب الإيمان

وللأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة في شريعتنا فإنها تثقل ميزان العبد يوم الحساب ويبلغ بها درجة الصائم القائم وهو سبب رئيس في دخول الجنة فإن النبي
صل الله عليه وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) رواه أحمد
وإذا عرفنا ذلك فإن هناك وسائل تعين العبد على التخلق بالأخلاق الحسنة أعلاها : التأمل في سيرة الرسول
صل الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء لاسيما وأنهم أعلى الناس خلقا وأوفرهم أدبا فإذا أراد المسلم التحلي بالصبر قرأ قصة نبي الله يوسف عليه السلام وإذا أراد التخلّق بالحلم نظر إلى حلم رسول الله صل الله عليه وسلم مع قومه وهكذا ينهل من أخلاق الأنبياء ويتعلّم منهم شمائل الخير كلها
وبعد : فقد تبيّن لنا من خلال هذا الحديث معاني التقوى وأحوالها كما تبيّن لنا أيضا أن الإسلام يقبل من العاصي توبته ولا يطرده من رحمة الله وظهرت لنا معالم الخلق الحسن وأهميته فجدير بنا أن نعمل بهذه الوصايا الثلاث نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المتقين

                                                                   الحديث التاسع عشر

عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صل الله عليه وسلم يوما فقال : ( يا غلام إني أُعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سأَلت فاسأَل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف )
رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
وفي رواية الإمام أحمد : ( احفظ الله تجده أَمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة واعلم أَن ما أَخطأَك لم يكن ليصيبك وما أَصابك لم يكن ليخطئك واعلم أَن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسرِ يسرا )

الشرح

اصطفى الله تعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم ليكتب لها التمكين في الأرض وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بوجود تربية إيمانية جادة تؤهلها لمواجهة الصعوبات التي قد تعتريها والأعاصير التي قد تحيق بها في سبيل نشر هذا الدين وإقامة شرع الله في الأرض
ومن هذا المنطلق حرص النبي
صل الله عليه وسلم على غرس العقيدة في النفوس المؤمنة وأولى اهتماما خاصا للشباب ولا عجب في ذلك فهم اللبنات القوية والسواعد الفتية التي يعوّل عليها نصرة هذا الدين وتحمّل أعباء الدعوة
وفي الحديث الذي نتناوله مثال حيّ على هذه التنشئة الإسلامية الفريدة للأجيال المؤمنة في عهد النبوة بما يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة وقواعد مهمة لا غنى للمسلم عنها

وأولى الوصايا التي احتواها هذا الحديث قوله
صل الله عليه وسلم : ( احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ) إنها وصية جامعة ترشد المؤمن بأن يراعي حقوق الله تعالى ويلتزم بأوامره ويقف عند حدود الشرع فلا يتعداه ويمنع جوارحه من استخدامها في غير ما خلقت له فإذا قام بذلك كان الجزاء من جنس العمل مصداقا لما أخبرنا الله تعالى في كتابه حيث قال : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } ( البقرة : 40 ) وقال أيضا : { فاذكروني أذكركم } ( البقرة : 152 )
وهذا الحفظ الذي وعد الله به من اتقاه يقع على نوعين :

الأول : حفظ الله سبحانه وتعالى لعبده في دنياه فيحفظه في بدنه وماله وأهله ويوكّل له من الملائكة من يتولون حفظه ورعايته كما قال تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } ( الرعد : 11 ) أي : بأمره وهو عين ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء : ( اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ) رواه أبو داوود و ابن ماجة وبهذا الحفظ أنقذ الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام من النار وأخرج يوسف عليه السلام من الجبّ وحمى موسى عليه السلام من الغرق وهو رضيع وتتسع حدود هذا الحفظ لتشمل حفظ المرء في ذريّته بعد موته كما قال سعيد بن المسيب لولده : " لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك " وتلا قوله تعالى : { وكان أبوهما صالحا } ( الكهف : 82 )
الثاني : حفظ الله للعبد في دينه فيحميه من مضلات الفتن وأمواج الشهوات ولعل خير ما نستحضره في هذا المقام : حفظ الله تعالى لدين يوسف عليه السلام على الرغم من الفتنة العظيمة التي أحاطت به وكادت له يقول الله تعالى في ذلك : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } ( يوسف : 24 ) وتستمر هذه الرعاية للعبد حتى يلقى ربّه مؤمنا موحدا
ولكن الفوز بهذا الموعود العظيم يتطلب من المسلم إقبالا حقيقيا على الدين واجتهادا في التقرب إلى الله عزوجل ودوام الاتصال به في الخلوات وهذا هو المقصود من قوله
صل الله عليه وسلم في الرواية الثانية لهذا الحديث : ( تعرّف إلى الله في الرخاء يعرِفك فـي الشدة ) فمن اتقى ربه حال الرخاء وقاه الله حال الشدّة والبلاء
ثم انتقل الحديث إلى جانب مهم من جوانب العقيدة ويتمثّل ذلك في قوله
صل الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سأَلت فاسأَل الله ) وسؤال الله تعالى والتوجه إليه بالدعاء من أبرز مظاهر العبوديّة والافتقار إليه بل هو العبادة كلها كما جاء في الحديث : ( الدعاء هو العبادة ) وقد أثنى الله على عباده المؤمنين في كتابه العزيز فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } ( الأنبياء : 90 )
وإن من تمام هذه العبادة ترك سؤال الناس فإن في سؤالهم تذلل لهم ومهانة للنفس ولا يسلم سؤالهم من منّة أو جرح للمشاعر أو نيل من الكرامة كما قال طاووس لعطاء رحمهما الله : " إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابه وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك " وصدق أبو العتاهية إذ قال :

لا تسألن بني آدم حاجـــة وسل الذي أبوابه لا تُحجب
فاجعل سؤالك للإله فإنمـا في فضل نعمة ربنـا تتقلب

وقد أثنى الله على عباده المتعففين فقال : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } ( البقرة : 273 ) وقد بايع النبي صل الله عليه وسلم رهطا من أصحابه على ترك سؤال الناس وكان منهم أبوبكر الصديق و أبو ذر الغفاري و ثوبان رضي الله عنهم أجمعين فامتثلوا لذلك جميعا حتى إن أحدهم إذا سقط منه سوطه أو خطام ناقته لا يسأل أحدا أن يأتي به
إن ما سبق ذكره من الثناء على المتعفّفين إنما هو متوجه لمن تعفّف عن سؤال الناس فيما يقدرون عليه وما يملكون فعله أما ما يفعله بعض الجهلة من اللجوء إلى الأولياء والصالحين الأحياء منهم أو الأموات ليسألونهم ويطلبون منهم أعمالاً خارجةً عن نطاق قدرتهم فهذا صرفٌ للعبادة لغير الله عزوجل وبالتالي فهو داخل تحت طائلة الشرك

وفي قوله : ( وإذا استعنت فاستعن بالله ) أمر بطلب العون من الله تعالى دون غيره لأن العبد من شأنه الحاجة إلى من يعينه في أمور معاشه ومعاده ومصالح دنياه وآخرته وليس يقدر على ذلك إلا الحي القيوم الذي بيده خزائن السموات والأرض فمن أعانه الله فلا خاذل له ومن خذله الله فلن تجد له معينا ونصيرا قال تعالى : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } ( آل عمران : 160 ) ولهذا المعنى كان النبي صل الله عليه وسلم يكثر من قول : ( اللهم أعني ولا تعن علي) وأمر معاذا رضي الله عنه ألا يدع في دبر كل صلاة أن يقول ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) رواه النسائي وأبو داود
وإذا قويت استعانة العبد بربّه فإن من شأنها أن تعمّق إيمانه بقضاء الله وقدره والاعتماد عليه في كل شؤونه وأحواله وعندها لا يبالي بما يكيد له أعداؤه ويوقن أن الخلق كلهم لن ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له ولن يستطيعوا أن يضرّوه بشيء لم يُقدّر عليه ولم يُكتب في علم الله كما قال سبحانه : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } ( الحديد : 22 )

ولما وعى سلفنا الصالح هذه الوصية أورثهم ذلك ثباتا في العزيمة وتفانيا في نشر هذا الدين غير مبالين بالصعوبات التي تواجههم والآلام التي تعتريهم لأنهم علموا أن طريق التمكين إنما يكون بالعمل بهذه الوصية النبوية وأن الفرج يأتي من بعد الكرب وأن العسر يعقبه اليسر وهذا هو الطريق الذي سلكه أنبياء الله جميعا عليهم السلام فما كُتب النصر ل نوح عليه السلام إلا بعد سلسلة طويلة من الجهاد مع قومه والصبر على أذاهم وما أنجى الله نبيه يونس عليه السلام من بطن الحوت إلا بعد معاناة طويلة عاشها مستغفرا لربّه راجيا فرجه معتمدا عليه في كل شؤونه حتى انكشفت غمّته وأنقذه من بلائه ومحنته وهكذا يكون النصر مرهونا بالصبر على البلاء والامتحان

إننا نستوحي من هذا الحديث معالم مهمة ووصايا عظيمة من عمل بها كتبت له النجاة واستنارت له عتبات الطريق فما أحوجنا إلى أن نتبصّر كلام نبينا
صل الله عليه وسلم وتوجيهاته ونستلهم منها الحلول الناجعة لمشكلات الحياة ونجعلها السبيل الأوحد للنهضة بالأمة نحو واجباتها

                                                                   الحديث العشرون

عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )
رواه البخاري

الشرح

الحياء زينة النفس البشرية وتاج الأخلاق بلا منازع وهو البرهان الساطع على عفّة صاحبه وطهارة روحه ولئن كان الحياء خلقا نبيلا يتباهى به المؤمنون فهو أيضا شعبة من شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة كما قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ) رواه أحمد والترمذي

والحق أن الحياء رافد من روافد التقوى لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل ويصونه عن مقارفة كل قبيح ومبعث هذا الحياء هو استشعار العبد لمراقبة الله له ومطالعة الناس إليه فيحمله ذلك على استقباح أن يصدر منه أي عمل يعلم منه أنه مكروه لخالقه ومولاه ويبعثه على تحمّل مشقة التكاليف ومن أجل ذلك جاء اقتران الحياء بالإيمان في غير ما موضع من النصوص الشرعية في إشارة واضحة إلى عظم هذا الخلق وأهميتة

وقد عُرف النبي صل الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتُهر عنه حتى قال عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذلك : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ) وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على هذه السجيّة فلا عجب إذا أن يصبح الحياء هو الوصية المتعارف عليها والبقية الباقية من كلام النبوة الأولى والتي يبلغها كل نبي لأمتة

وللحياء صور متعددة فمنها : حياء الجناية ومعناه : الحياء من مقارفة الذنب مهما كان صغيراً وذلك انطلاقا من استشعار العبد لمخالفته لأمر محبوبه سبحانه وتعالى ومن هذا الباب اعتذار الأنبياء كلهم عن الشفاعة الكبرى حينما يتذكرون ما كان منهم من خطأ وإن كان معفوا عنه وكان الإمام أحمد بن حنبل يكثر من قول :

إذا ما قــــال لــي ربي أما استحييت تعصيني

وتخفي الذنب من خلقي وبالعـصيــان تأتينــــي

فـما قـولي لـه لــمـــــــا يعاتـبـنــي ويُقـصـيـني

وهناك نوع آخر من الحياء وهو الحياء الذي يتولد من معرفة العبد لجلال الرب وكمال صفاته ويكون هذا الحياء دافعا له على مراقبة الله على الدوام لأن شعاره هو قول القائل : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظم من عصيته "

ويمكن أن يُضاف نوع ثالث وهو حياء النساء ذلك الحياء الذي يوافق طبيعة المرأة التي خُلقت عليها فيزيّنها ويرفع من شأنها واستمع إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ تقول : " كنت أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله صل الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي أي أطرحه فأقول : إنما هو زوجي وأبي فلما دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر "


فإذا اكتمل الحياء في قلب العبد استحيا من الله عزوجل ومن الناس بل جرّه حياؤه إلى الاستحياء من الملائكة الكرام ولهذا جاء في الحديث : ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) رواه مسلم

لقد جسّد النبي صل الله عليه وسلم الحياء في سلوكيات عملية تدرّب المرء على هذا الخلق النبيل فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( استحيوا من الله حق الحياء ) قلنا : يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله قال : ( ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) رواه الترمذي وهذا التصوير النبوي لخلق الحياء يدلّنا ويرشدنا إلى أسباب وصول أمتنا لهذا المستوى من الذلّ والمهانة إننا لم نستح من الله حق الحياء فأصابنا ما أصابنا ولو كنا على المستوى المطلوب من خلق الحياء لقدنا العالم بأسره فالحياء ليس مجرّد احمرار الوجه وتنكيس الرأس بل هو معاملة صادقة وإخلاص تام في حق الخالق والمخلوق

ولعل مما يحسن التنبيه إليه في هذا الباب أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الحياء من الناس قصور في الفهم وخطأ في التصوّر لأن الحياء لا يأتي إلا بخير والنبي صل الله عليه وسلم على شدة حيائه كان إذا كره شيئا عُرف ذلك في وجهه ولم يمنعه الحياء من بيان الحق وكثيرا ما كان يغضب غضبا شديدا إذا انتُهكت محارم الله ولم يخرجه ذلك عن وصف الحياء

وبعد : فهذه جولة سريعة مع خلق الحياء عرفنا فيها معالمه وفضائله وصوره وجوانبه وجدير بنا أن نحرص على هذا الخلق النبيل وأن نجعله شعار لنا حتى نلقى ربنا الجليل

ليست هناك تعليقات