الأحاديث النووية من الحديث الحادى والعشرون الى الحديث الخامس والعشرون
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) رواه البخاري
الشرح
الحياء زينة
النفس البشرية وتاج الأخلاق بلا منازع وهو البرهان الساطع على عفّة
صاحبه وطهارة روحه ولئن كان الحياء خلقا نبيلا يتباهى به المؤمنون فهو
أيضا شعبة من شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة كما قال رسول الله
صل الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ) رواه أحمد والترمذي
والحق أن
الحياء رافد من روافد التقوى لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل ويصونه
عن مقارفة كل قبيح ومبعث هذا الحياء هو استشعار العبد لمراقبة الله له
ومطالعة الناس إليه فيحمله ذلك على استقباح أن يصدر منه أي عمل يعلم منه
أنه مكروه لخالقه ومولاه ويبعثه على تحمّل مشقة التكاليف ومن أجل ذلك
جاء اقتران الحياء بالإيمان في غيرما موضع من النصوص الشرعية في إشارة
واضحة إلى عظم هذا الخلق وأهميته
وقد عُرف النبي صل الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتُهر عنه حتى قال عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذلك : (كان رسول الله صل الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها )
وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على هذه السجيّة فلا عجب إذا أن يصبح الحياء
هو الوصية المتعارف عليها والبقية الباقية من كلام النبوة الأولى والتي
يبلغها كل نبي لأمته
وللحياء صور
متعددة فمنها : حياء الجناية ومعناه : الحياء من مقارفة الذنب مهما كان
صغيراً وذلك انطلاقا من استشعار العبد لمخالفته لأمر محبوبه سبحانه
وتعالى ومن هذا الباب اعتذار الأنبياء كلهم عن الشفاعة الكبرى حينما
يتذكرون ما كان منهم من خطأ - وإن كان معفوا عنه - وكان الإمام أحمد بن حنبل يكثر من قول :
إذا ما قــــال لــي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعـصيــان تأتينــــي
فـما قـولي لـه لــمـــــــا يعاتـبـنــي ويُقـصـيـني
وهناك نوع آخر
من الحياء وهو الحياء الذي يتولد من معرفة العبد لجلال الرب وكمال
صفاته ويكون هذا الحياء دافعا له على مراقبة الله على الدوام لأن شعاره
هو قول القائل : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظم من عصيته "
ويمكن أن
يُضاف نوع ثالث وهو حياء النساء ذلك الحياء الذي يوافق طبيعة المرأة
التي خُلقت عليها فيزيّنها ويرفع من شأنها واستمع إلى أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها إذ تقول : " كنت أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله صل الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي – أي أطرحه - فأقول : إنما هو زوجي وأبي فلما
دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر "
فإذا اكتمل
الحياء في قلب العبد استحيا من الله عزوجل ومن الناس بل جرّه حياؤه إلى
الاستحياء من الملائكة الكرام ولهذا جاء في الحديث : ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) رواه مسلم
لقد جسّد النبي صل الله عليه وسلم الحياء في سلوكيات عملية تدرّب المرء على هذا الخلق النبيل فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( استحيوا من الله حق الحياء ) قلنا : يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله قال : (
ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى
والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) رواه الترمذي
وهذا التصوير النبوي لخلق الحياء يدلّنا ويرشدنا إلى أسباب وصول أمتنا
لهذا المستوى من الذلّ والمهانة إننا لم نستح من الله حق الحياء
فأصابنا ما أصابنا ولو كنا على المستوى المطلوب من خلق الحياء لقدنا
العالم بأسره فالحياء ليس مجرّد احمرار الوجه وتنكيس الرأس بل هو
معاملة صادقة وإخلاص تام في حق الخالق والمخلوق
ولعل مما يحسن
التنبيه إليه في هذا الباب أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحجة
الحياء من الناس - قصور في الفهم وخطأ في التصوّر لأن الحياء لا يأتي
إلا بخير والنبي صل الله عليه وسلم على شدة حيائه كان إذا كره شيئا
عُرف ذلك في وجهه ولم يمنعه الحياء من بيان الحق وكثيرا ما كان يغضب
غضبا شديدا إذا انتُهكت محارم الله ولم يخرجه ذلك عن وصف الحياء
عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم في صحيحه
الشرح
إن غاية ما
يتطلع إليه الإنسان المسلم أن تتضح له معالم الطريق إلى ربّه فتراه
يبتهل إليه في صلاته كل يوم وليلة أن يهديه الصراط المستقيم كي يتخذه
منهاجا يسير عليه وطريقا يسلكه إلى ربه حتى يظفر بالسعادة في الدنيا
والآخرة
ومن هنا جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله رضي
الله عنه إلى النبي صل الله عليه وسلم وانتهز الفرصة ليسأله عن هذا
الشأن الجليل فجاءته الإجابة من مشكاة النبوة لتثلج صدره بأوضح عبارة
وأوجز لفظ : ( قل آمنت بالله ثم استقم )
إن هذا الحديث
على قلة ألفاظه يضع منهجا متكاملا للمؤمنين وتتضح معالم هذا المنهج
ببيان قاعدته التي يرتكز عليها وهي الإيمان بالله : ( قل آمنت بالله )
فهذا هو العنصر الذي يغير من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته وبه يحيا
القلب ويولد ولادة جديدة تهيئه لتقبل أحكام الله وتشريعاته ويقذف الله في
روحه من أنوار هدايته فيعيش آمنا مطمئنا ناعما بالراحة والسعادة قال
الله تعالى مبينا حال المؤمن : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } (
الأنعام : 122 ) فبعد أن كان خاوي الروح ميّت القلب دنيوي النظرة
إذا بالنور الإيماني يملأ جنبات روحه فيشرق منها القلب وتسمو بها الروح ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه
فإذا ذاق
الإنسان حلاوة الإيمان وتمكنت جذوره في قلبه استطاع أن يثبت على الحق
ويواصل المسير حتى يلقى ربّه وهو راض عنه ثم إن ذلك الإيمان يثمر له
العمل الصالح فلا إيمان بلا عمل كما أنه لا ثمرة بلا شجر ولهذا جاء
في الحديث : ( ثم استقم ) فرتّب الاستقامة على
الإيمان فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق ويجدر بنا في هذا
المقام أن نستعرض بعضاً من جوانب الاستقامة المذكورة في الحديث
إن حقيقة
الاستقامة أن يحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها فلا يحجب
نورها بالمعاصي والشهوات مستمسكا بحبل الله كما قال ابن رجب رحمه
الله : " والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير
تعويج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها : الظاهرة والباطنة
وترك المنهيات كلها " وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ( الروم : 30 )
وقد أمر الله تعالى بالاستقامة في مواضع عدة من كتابه منها قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } ( هود : 112 ) وبيّن سبحانه هدايته لعباده المؤمنين إلى طريق الاستقامة كما قال عزوجل : { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } ( الحج : 54 ) وجعل القرآن الكريم كتاب هداية للناس يقول الله تعالى في ذلك : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } ( إبراهيم : 1 )
ولئن كانت
الاستقامة تستدعي من العبد اجتهاداً في الطاعة فلا يعني ذلك أنه لا يقع
منه تقصير أو خلل أو زلل بل لا بد أن يحصل له بعض ذلك بدليل أن الله
تعالى قد جمع بين الأمر بالاستقامة وبين الاستغفار في قوله : { فاستقيموا إليه واستغفروه } (
فصلت : 6 ) فأشار إلى أنه قد يحصل التقصير في الاستقامة المأمور بها
وذلك يستدعي من العبد أن يجبر نقصه وخلله بالتوبة إلى الله عزوجل
والاستغفار من هذا التقصير وهذا كقوله صل الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا ) رواه أحمد وقوله أيضا : ( سددوا وقاربوا ) رواه البخاري
والمقصود منه
المحاولة الجادة للسير في هذا الطريق والعمل على وفق ذلك المنهج على قدر
استطاعته وإن لم يصل إلى غايته شأنه في ذلك شأن من يسدد سهامه إلى هدف
فقد يصيب هذا الهدف وقد تخطئ رميته لكنه بذل وسعه في محاولة تحقيق ما
ينشده ويصبو إليه
وللاستقامة
ثمار عديدة لا تنقطع فهي باب من أبواب الخير وبركتها لا تقتصر على
صاحبها فحسب بل تشمل كل من حوله ويفهم هذا من قوله تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } (
الجن : 16 ) وتستمر عناية الله بعباده المستقيمين على طاعته حتى ينتهي
بهم مطاف الحياة وهم ثابتون على كلمة التوحيد لتكون آخر ما يودعون بها
الدنيا كما قال الله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا
الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا
بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم
فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم } ( فصلت : 30-32 )
وإذا أردنا أن
تتحقق الاستقامة في البدن فلا بد من استقامة القلب أولا لأن القلب هو
ملك الأعضاء فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله ومحبته وتعظيمه استقامت الجوارح على طاعة الله ثم يليه في الأهمية : استقامة اللسان
لأنه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه
عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي
الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صل الله عليه وسلم فقال : أرأيت إذا صليت
الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد
على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ قال : ( نعم ) رواه مسلم
ومعنى حرّمت الحرام : اجتنبته ومعنى أحللت الحلال : فعلته معتقدا حلّه
الشرح
لما أرسل الله
تعالى نبيه محمدا صل الله عليه وسلم جعل الغاية من ابتعاثه الرحمة
بالخلق والإرشاد إلى أقصر الطرق الموصلة إلى رضى الربّ وإذا رأينا قوله
تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (
الحج : 107 ) تداعى إلى أذهاننا الكثير من الصور التي تؤكّد هذا المعنى
فإنه صل الله عليه وسلم لم يدّخر جهدا في إنقاذ البشرية من الضلال
وتبصيرهم بالهدى والحق
وتحقيق هذا
الهدف يتطلّب الإدراك التام لما عليه البشر من تنوّع في القدرات والطاقات
إذ من المعلوم أن الناس ليسوا على شاكلة واحدة في ذلك بل يتفاوتون
تفاوتا كبيرا فلئن كان في الصحابة من أمثال الصدّيق و الفاروق وغيرهم
من قادات الأمة الذين جاوزت همتهم قمم الجبال وأعالي السحاب فإن منهم -
في المقابل - الأعرابي في البادية والمرأة الضعيفة وكبير السنّ
وغيرهم ممن هم أدنى همّة وأقل طموحا من أولئك الصفوة
ولذلك نرى هذا الصحابي وقد أتى ليسأل رسول الله صل الله عليه وسلم سؤال المشتاق إلى ما أعده الله تعالى لعباده المتقين في الجنة
ومسترشدا عن أقصر الطرق التي تبلغه منازلها فقال : " أرأيت إذا صليت
الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد
على ذلك شيئا أأدخل الجنة ؟ "
إن هذا السؤال قد ورد على ألسنة عدد من الصحابة رضوان الله عليهم بأشكال متعددة وعبارات متنوعة فقد ورد في صحيح البخاري و مسلم أن أعرابيا جاء إلى النبي صل الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( خمس صلوات في اليوم والليلة ) فقال : هل علي غيرها ؟ قال : ( لا إلا أن تطوع ) قال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( وصيام رمضان ) قال : هل علي غيره ؟ قال : ( لا إلا أن تطوع ) وذكر له رسول الله صل الله عليه وسلم الزكاة قال : هل علي غيرها ؟ قال : ( لا إلا أن تطوع ) قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( أفلح إن صدق ) وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صل الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ فقال النبي صل الله عليه وسلم : ( تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ) رواه البخاري
ومما لا ريب
فيه أن السائل الذي سأل رسول الله صل الله عليه وسلم كان دقيقا في اختياره للمنهج الذي رسمه لنفسه فإنه قد ذكر
الصلوات المكتوبات وهي أعظم أمور الدين بعد الشهادتين بل إن تاركها
بالكلية خارج عن ملة الإسلام كما جاء في الحديث الصحيح : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )
وبعد الصلاة
ذكر صوم رمضان وهو أحد أركان الإسلام العظام و مما أجمع عليه المسلمون
وقد رتّب الله عليه أجراً كبيراً يقول النبي صل الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
ثم أكّد
التزامه التام بالوقوف عند حدود الله وشرائعه متمثلا بتحليل ما أحله الله
في كتابه وبيّنه رسوله صل الله عليه وسلم في سنته واجتناب ما ورد في
هذين المصدرين من المحرمات مكتفيا بما سبق غير مستزيد من الفضائل
والمستحبات الواردة
ولسائل أن
يسأل : لماذا لم يرد ذكر للحج والزكاة في الحديث على الرغم من كونهما من
أركان الإسلام ولا يقلان أهمية عن غيرهما ؟ والحقيقة أن الجواب على ذلك
يحتاج منا إلى أن نعرف الفرق بين الحج والزكاة وبين غيرهما من العبادات
فإن فرضيتهما لا تتناول جميع المكلفين فالحج لا يجب إلا على المستطيع
كما قال الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } (
آل عمران : 97 ) كذلك الزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب ونستطيع أن
نقول أيضاً : إن هذا الحديث ربما ورد قبل أن تفرض الزكاة أو الحج فإن
الحج قد فُرض في السنة الثامنة والزكاة وإن كانت قد فُرضت في مكة فإنها
كانت عامة من غير تحديد النصاب ولم يأتي بيان النصاب إلا في المدينة
ولعل هذا هو السر في عدم ذكرهما في الحديث
وهنا تأتي
البشرى من النبي صل الله عليه وسلم ليبين أن الالتزام بهذا المنهج
الواضح كاف لدخول الجنة وهذا يعكس ما عليه الإسلام من يسر وسماحة
وبعدٍ عن المشقّة والعنت فهو يسرٌ في عقيدته يسرٌ في عباداته وتكاليفه
واقع ضمن حدود وطاقات البشر وهذا مما اختص الله تعالى به هذه الأمة دون
سائر الأمم
لكن ثمة أمر
ينبغي ألا نُغفل ذكره وهو أن التزام العبد بالطاعات وفق ما أمر الله به
واجتناب المحرمات وتركها يحتاج إلى عزيمة صادقة ومجاهدة حقيقية للنفس
وليس اتكالا على سلامة القلب وصفاء النية وليس اعتمادا على سعة رحمة
الله فحسب لأن للجنة ثمنا وثمنها هو العمل الصالح كما قال الله تعالى :
{ وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ( الزخرف : 72 ) فإذا صدقت نية العبد أورثته العمل ولابد
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (
الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله
تملآن - تملأ - ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان
والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه
فمعتقها أو موبقها ) رواه مسلم
الشرح
كان من معجزات
النبي صل الله عليه وسلم في قومه ما أوتيه من الفصاحة والبلاغة في
كلامه فعلى الرغم من كونه أميا لا يحسن القراءة و الكتابة إلا أنه أعجز
الفصحاء ببلاغته ومن أبرز سمات هذا الإعجاز ما عُرف به من جوامع الكلم
فإنه صل الله عليه وسلم كان يرشد أمته ويوجهها بألفاظ قليلة تحمل في
طيّاتها العديد من المعاني ولم تكن هذه الألفاظ متكلفة أو صعبة بل كانت
سهلة ميسورة على جميع فئات الناس
وها نحن أيها
القاريء الكريم نتناول أحد جوامع كلمه صل الله عليه وسلم فإن هذا
الحديث قد اشتمل على العديد من التوجيهات الرائعة والعظات السامية
تدعوا كل من آمن بالله ربا وبالإسلام دينا أن يتمسك بها ويعمل
بمقتضاها
وأول ما ابتدأ
به النبي صل الله عليه وسلم وصيّته هو الطهور والطهور شرط الصلاة
ومفتاح من مفاتيح أبواب الجنان ويقصد به الفعل الشرعي الذي يزيل الخبث
ويرفع الحدث ولا تصح الصلاة إلا به ويشمل أيضا تطهير الثياب والبدن
والمكان
وقد اختلف العلماء في معنى قوله صل الله عليه وسلم : ( الطهور شطر الإيمان ) على
أقوال منها : أن الإيمان الحقيقي يشمل طهارة الباطن والظاهر والوضوء
يطهّر الظاهر وهذا يدل على أن الوضوء شطر الإيمان واستشهدوا بالحديث
الذي رواه مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره ) وقالوا أيضا : الطهارة هي شطر الصلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بطهور ومستند هذا القول أن المقصود بقوله في الحديث : ( شطر الإيمان ) هو : الصلاة ونظير ذلك قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } (
البقرة : 143 ) أي : صلاتكم ومما قالوه أيضا : أن الطهور شطر
الإيمان لأن الطهارة تُكفر صغائر الذنوب بينما الإيمان يكفر الكبائر
فصار شطر الإيمان بهذا الاعتبار ولعل من الملاحظ أن هذه الأقوال متقاربة
وكلها تصب في ذات المعنى
ثم انتقل الحديث إلى الترغيب في ذكر الله عزوجل فقال : ( والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن - تملأ - ما بين السماوات والأرض )
وهذا يبين عظيم الأجر المترتب على هذه الكلمات الطيبات فالحمد لله تملأ
الميزان يوم القيامة وذلك لما اشتملت عليه من الثناء على الله سبحانه
وتعالى والتبجيل له لذلك يستحب للعبد إذا دعا أن يقدم بين يديه الثناء
الجميل مما يكون أدعى لقبول دعائه ثم إن الحمد والتسبيح يملآن ما بين
السماء والأرض - بنص الحديث - والسرّ في ذلك : ما اجتمع فيهما من التنزيه
للذات الإلهية والثناء عليها وما يقتضيه ذلك من الافتقار إلى الله
وهذا ما جعل هاتين الكلمتين حبيبتين إلى الرحمن كما جاء في حديث آخر
وأما الصلاة
فقد وصفها رسول الله صل الله عليه وسلم بالنور وإذا كان الناس يستعينون
على الظلمة بالنور كي تتضح لهم معالم الطريق ويهتدوا إلى وجهتهم
فذلك شأن الصلاة أيضا فهي نور الهداية الذي يلتمسه العبد حيث تمنع
الصلاة صاحبها من المعاصي وتنهاه عن المنكر كما قال تعالى في كتابه : { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ( العنكبوت : 45 ) ويقوى هذا النور حتى يُرى أثره على وجه صاحبه قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } ( الفتح : 29 ) ولن تكون الصلاة نورا لصاحبها في الدنيا فحسب بل يشمل ذلك الدار الآخرة كما قال عليه الصلاة والسلام : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) رواه الترمذي
وإذا كانت
الصلاة من مظاهر العبودية البدنية فإن الصدقة تعد عبادة مالية يزكّي
بها المسلم ماله ويطهّر بها روحه من بخلها وحرصها على المال لاسيما وأن
النفوس قد جبلت على محبّة المال والحرص على جمعه كما قال الله عزوجل في
كتابه : { وتحبون المال حبا جما } ( الفجر : 20 )
ومن محاسن هذه
العبادة - أي الصدقة - أن نفعها متعد إلى الغير إذ بها تُسدّ حاجة
الفقير وتُشبع جوعته ويكفل بها اليتيم وغير ذلك من مظاهر تلاحم لبنات
المجتمع المسلم الأمر الذي جعل هذه العبادة من أحب الأعمال إلى الله
تعالى وبرهانا ساطعا على إيمان صاحبها وصدق يقينه بربّه
ولنقف قليلا مع قوله صل الله عليه وسلم في الحديث : ( والصبر ضياء )
لنستوضح دقة هذا التعبير النبوي وروعته فإنه صل الله عليه وسلم قد وصف
الصبر بالضياء والضياء في حقيقته : النور الذي يصاحبه شيء من الحرارة
والإحراق بعكس النور الذي يكون فيه الإشراق من غير هذه الحرارة ويوضّح
هذا المعنى قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } (
يونس : 5 ) فالشمس ضياء لأنها مشتملة على النور والحرارة والإحراق أما
القمر فهو نور وإذا عدنا إلى قوله صل الله عليه وسلم : ( والصبر ضياء ) أدركنا
أن الصبر لابد أن يصاحبه شيء من المعاناة والمشقة وأن فيه نوعاً من
المكابدة للصعاب فلا ينبغي للمسلم أن يعجزه ذلك أو يفتّ من عزيمته ولكن
ليستعن بالله عزوجل ويحسن التوكل عليه حتى تمرّ المحنة وتنكشف
الغمّة
ثم ينتقل بنا
المطاف إلى الحديث عن القرآن الكريم فإن الله عزوجل أنزل كتابه ليكون
منهاجا للمؤمنين وإماما لهم يبيّن لهم معالم هذا الدين ويوضّح لهم
أحكامه ويأمرهم بكل فضيلة وينهاهم عن كل رذيلة فانقسم الناس نحوه إلى
فريقين : فريق عمل بما فيه ووقف عند حدوده وتلاه حق تلاوته وجعله
أنيسه في خلوته فذلك السعيد به يوم القيامة وفريق لم ينتفع به بل هجر
قراءته وانحرف عن دربه ولم يعمل بأحكامه فإن هؤلاء يكون القرآن خصيما
لهم يوم القيامة وبين هذا الفريق وذاك يقول الله عزوجل واصفا إياهما : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ( الإسراء : 82 )
ثم يتوّج
النبي صل الله عليه وسلم كلامه بوصية رائعة يحدد فيها أحوال الناس
وطبائعهم إذ الناس سائرون في خضم هذه الحياة يغدون ويروحون يكدحون في
تحقيق مآربهم وطموحاتهم والذي يفرُق بينهم : الهدف الذي يعيشون لأجله
فمنهم من سعى إلى فكاك نفسه وعتقها من نار جهنم فباع نفسه لله تعالى
ومنهم من جعل همّه الحصول على لذات الدنيا الفانية وشهواتها الزائلة
فأهلك نفسه وباعها بثمن بخس قال الله عزوجل : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } (
الشمس : 7 – 10 ) فمن زكّى نفسه فقد باعها لله واشترى بها الجنة ومن
دسّ نفسه في المعاصي فقد خاب وخسر وكتبت عليه الشقاوة في الدنيا
والآخرة
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صل الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال : (
يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا
عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا
من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته
فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار وأنا أغفر
الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني
ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو
أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من
ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد
فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط
إذا أدخل البحر يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها
فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) رواه مسلم
الشرح
لقد بدأ الحديث بإرساء قواعد العدل في النفوس وتحريم الظلم والعدوان يقول النبي صل الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) وحقيقة الظلم : وضع الشيء في غير موضعه وهذا مناف لكمال الله تعالى وعدله فلذلك نزّه الله تعالى نفسه عن الظلم فقال : { وما أنا بظلام للعبيد } ( ق : 29 ) وقال أيضا : { وما الله يريد ظلما للعباد } ( غافر : 31 )
ولئن كان الله
تعالى قد حرّم الظلم على نفسه فقد حرّمه على عباده وحذّرهم أن يقعوا
فيه وما ذلك إلا لعواقبه الوخيمة على الأمم وآثاره المدمرة على
المجتمعات وما ظهر الظلم بين قوم إلا كان سببا في هلاكهم وتعجيل
العقوبة عليهم كما قال سبحانه في كتابه العزيز : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } (
هود : 102 ) ومن ثمّ كانت دعوة المظلوم عظيمة الشأن عند الله فإن
أبواب السماء تفتح لها ويرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة بل إنه
سبحانه وتعالى يقول لها ( وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ) كما صح بذلك الحديث
ثم انتقل الحديث إلى بيان مظاهر افتقار الخلق إلى ربهم وحاجتهم إليه وذلك في قوله : (
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع
إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته
فاستكسوني أكسكم ) فبيّن أن الخليقة كلها ليس بيدها من الأمر شيء
ولا تملك لنفسها و لا لغيرها حولا ولا قوة سواءٌ أكان ذلك في أمور
معاشها أم معادها وقد خاطبنا القرآن بمثل رائع يجسّد هذه الحقيقة حيث
قال : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين
تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا
لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } ( الحج : 73 ) أي : إذا أخذ
الذباب شيئا من طعامهم ثم طار وحاولوا بكل عدتهم وعتادهم أن يخلصوا هذا
الطعام منه ما استطاعوا أبدا فإذا كان الخلق بمثل هذا الضعف والافتقار
لزمهم أن يعتمدوا على الله في أمور دنياهم وآخرتهم وأن يفتقروا إليه في
أمر معاشهم ومعادهم
وليس افتقار
العباد إلى ربهم مقصورا على الطعام والكساء ونحوهما بل يشمل الافتقار إلى
هداية الله جل وعلا ولهذا يدعو المسلم في كل ركعة بـ : { اهدنا الصراط المستقيم } ( الفاتحة : 6 )
ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك حقيقة ابن آدم المجبولة على الخطأ فقال : ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم )
إنه توضيح للضعف البشري والقصور الذي يعتري الإنسان بين الحين والآخر
فيقارف الذنب تارة ويندم تارة أخرى وهذه الحقيقة قد أشير إليها في
أحاديث أخرى منها : ما رواه الإمام ابن ماجة بسند حسن أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )
فإذا كان الأمر كذلك فإن على الإنسان المسلم أن يتعهّد نفسه بالتوبة
فيقلع عن ذنبه ويستغفر من معصيته ويندم على ما فرّط في جنب الله ثم
يوظّف هذا الندم الذي يصيبه بأن يعزم على عدم تكرار هذا الذنب فإذا قُدّر
عليه الوقوع في الذنب مرة أخرى جدد التوبة والعهد ولم ييأس ثقةً منه
بأن له ربا يغفر الذنب ويقبل التوبة من عباده المخطئين
ثم بين لنا
رسول الله صل الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربّه - شيئا من مظاهر الكمال
الذي يتصف به الله جل وعلا مبتدئا بالإشارة إلى استغناء الله عن خلقه
وعدم احتياجه لهم كما قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } (
فاطر : 15 ) فالله تعالى غني حميد لا تنفعه طاعة عباده ولا تضره
معصيتهم بل لو آمن من في الأرض جميعا وبلغوا أعلى مراتب الإيمان
والتقوى لم يزد ذلك في ملك الله شيئا ولو كفروا جميعا ما نقص من ملكه
شيئا لأن الله سبحانه وتعالى مستغن بذاته عن خلقه وإنما يعود أثر
الطاعة أو المعصية على العبد نفسه وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد هذه
الحقيقة ويوضحها قال الله عزوجل : { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها } (
الأنعام : 104 ) فمن عرف حجج الله وآمن بها واتبعها فقد بلغ الخير
لنفسه ومن تعامى عن معرفة الحق وآثر عليها ظلمات الغواية فعلى نفسه
جنى وأوردها الردى
وبالرغم من
ذلك فإن نعم الله سبحانه مبثوثة للطائع والعاصي على السواء ، دون أن يجعل
تلك المعاصي مانعا لهذا العطاء وهذا من كرم الله تعالى وجوده وهي أيضا
مظهر من مظاهر سعة ملك الله تعالى فإن الله لو أعطى جميع الخلق ما يرغبون لم ينقص ذلك من ملكه شيئا يُذكر
ولما كانت
الحكمة من الخلق هي الابتلاء والتكليف بيّن سبحانه أن العباد محاسبون على
أعمالهم ومسؤولون عن تصرفاتهم فقد جعل الله لهم الدنيا دارا يزرعون
فيها وجعل لهم الآخرة دارا يجنون فيها ما زرعوه فإذا رأى العبد في
صحيفته ما يسرّه فليعلم أن هذا محض فضل الله ومنّته إذ لولا الله تعالى
لما قام هذا العبد بما قام به من عمل صالح وإن كانت الأخرى فعلى نفسها
جنت براقش ولا يلومنّ العبد إلا نفسه
ليست هناك تعليقات