كتاب عقيدة أهل البيت عليهم السلام

مقـدمـة المؤلف

الحمد لله العزيز الغفار القائل :
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
[العصر : 3]
والصلاة والسلام على سيدي ومولاي سيد الأنام وغرة الزمان محمد بن عبد الله القائل :
(تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) وأكرر السلام على الآل الأطهار السادة الأخيار وعلى الصحب الكرام البررة الأعلام

أما بعد
فإن الله تبارك وتعالى قد بعث حبيبه وخليله وصفوة خلقه محمداً صل الله عليه وسلم بالتوحيد الصافي النقي لينشره بين الناس ويبثه فيهم وقد قام بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه بهذا الأمر خير قيام فنشر التوحيد وحارب الشرك بكل صوره وأشكاله وما توفاه الله جل وعلا إلا بعد أن بلغ رسالة ربه كاملة وحتى أنزل الله جل وعلا عليه قوله :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)
[المائدة : 3]

وقام أصحابه رضي الله عنهم بعده بهذه المهمة خير قيام ومن هؤلاء الصحابة الكرام أهل بيته الأطهار السادة الأخيار وعلى رأسهم الحبر البحر التقي النقي ابن عم الرسول صل الله عليه وسلم وزوج البتول سيدة نساء العالمين علي بن أبي طالب عليه السلام وكذا قام بهذه الدعوة المباركة سبطا رسول الله صل الله عليه وسلم وريحانتاه من الدنيا وحبيباه السيدان الجليلان : الحسن والحسين عليهما السلام وكذا البحر الزخار ترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما

وجاء بعدهم خير خلف لخير سلف من أئمة أهل البيت كالإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام وولده الذي بقر العلوم وحصَّل الفهوم محمد بن علي عليه السلام وأخيه زيد عليه السلام الذي كان قوي الفهم صافي الذهن والإمام المقدم الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب والإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام الذي سارت الركبان بذكر محاسنه وغيرهم كثير ممن جاء بعدهم حيث كانوا على خطا جدهم رسول الله صل الله عليه وسلم سائرين ولسنته متبعين

ولكن كما قيل : لا يخلو بحر من كدر ولا ماء من عكر فإن بعض الناس لما رأوا سيرة هؤلاء الأمجاد منتشرة بين الناس كانتشار النور عند الإصباح صاروا يكذبون عليهم وينسبون إليهم من الباطل المحال ما تقشعر منه الأبدان وتصطك الآذان خاصة في أعظم أركان الدين وما يتعلق بذات الله جل جلاله

فرأيت أن من الواجب عليَّ تجاه هؤلاء الصفوة الإبدال أن أذكر محاسن كلامهم في توحيد ربهم وأبين بعدهم عن كل عيب ونقيصة مما نسبه إليهم أهل البهتان ولقد مضيت في هذه الرسالة من بعد المقدمة على النحو الآتي :

الفصل الأول : أهمية التوحيد وأقسامه :
المبحث الأول : الغاية من بعثة الأنبياء
المبحث الثاني : فضل التوحيد وأقسامه

الفصل الثاني : توحيد الربوبية :
المبحث الأول : التعريف بتوحيد الربوبية
المبحث الثاني : أهمية الإيمان بالقضاء والقدر
المطلب الأول : ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
المطلب الثاني : المنحرفون في القدر
المطلب الثالث : الصبر على قضاء الله وقدره

الفصل الثالث : توحيد الألوهية :
المبحث الأول : التعريف بتوحيد الألوهية
المبحث الثاني : التحذير من خطر الشرك بالله
المبحث الثالث : سؤال وجواب في توحيد الألوهية
المبحث الرابع : أمثلة دالة على وقوع الشرك في الناس

الفصل الرابع : توحيد الأسماء والصفات :
المبحث الأول : قواعد في فهم الأسماء الحسنى وإثباتها
المبحث الثاني : قواعد في فهم الصفات العلى ومعرفتها
المبحث الثالث : قواعد مشتركة في أدلة أسماء الله وصفاته
المبحث الرابع : أمثلة لبعض صفات الله سبحانه وتعالى

قائمة المراجع التي نهلت منها في سبيل إيجاد هذه المعلومات
وأسأل الله جل في علاه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وسبباً موصلاً إلى محبة النبي صل الله عليه وسلم وآله الطيبين المباركين وأن يجعلهم ذخراً لي يوم المعاد وأن يشفعهم فيَّ كما دافعت عنهم في هذا الكتاب وذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


الفصل الأول
أهمية التوحيد وأقسامه

ويتضمن المباحث الآتية :
المبحث الأول : الغاية من بعثة الأنبياء والرسل
المبحث الثاني : أهمية التوحيد وأقسامه

المبحث الأول :
الغاية من بعثة الأنبياء عليهم السلام
خلق الله الثقلين (الإنس والجن) لعبادته وأوجبها عليهم وهذه الغاية بينها الله سبحانه في كتابه حيث قال :
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)
[الذاريات:56]
وقال تعالى :
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)
[الإسراء : 23]
وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ليرشدوا العباد إلى توحيده تبارك وتعالى كما قال تعالى : ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)
[النحل : 36]
فكل الرسل بدءوا دعوتهم بتوحيد الله تبارك وتعالى ابتداءً من نوح عليه السلام وانتهاء بمحمد صل الله عليه وسلم
كما قال تعالى :
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
[الأعراف : 59]
وقال تعالى :
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)
[الأعراف : 65]
وقال تعالى :
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
[الأعراف : 73]
وقال تعالى :
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
[الأعراف : 85]
وهذا خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صل الله عليه وسلم ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً وهو يدعو قومه إلى توحيد الله تبارك وتعالى وينهاهم عن الشرك كما قال تعالى :
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)
[الأنعام : 151]

قال الحاج مير سيد علي الحائري :
بدأ سبحانه بالتوحيد ونهى عن الشرك وقدم الشرك لأنه رأس المحرمات ولا يقبل الله معه شيئاً من الطاعات
( تفسير مقتنيات الدرر : (4/284) )

وقد كان الأنبياء عليهم السلام عابدين لله حق العبادة غير مشركين به شيئاً وعلى هذا سار أئمة آل البيت عليهم السلام منقادين وامتثله الصحابة الكرام رضي الله عنهم باختيارهم منحازين فقد استجاب الصحابة رضي الله عنهم صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً عبيداً وأحراراً لهذه العقيدة الداعية إلى توحيد الله المعظمة له تبارك وتعالى حق تعظيمه وهذا ما كان النبي صل الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه في كل مكان وفي كل زمان ويجعل محبة الله تبارك وتعالى والخوف منه تملأ قلوبهم

فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صل الله عليه وسلم فقال :
(يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد؟) -يقول ثلاثاً- قال : الله ورسوله أعلم!
فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : (حق الله عز وجل على العباد أن لا يشركوا به شيئاً)
ثم قال صل الله عليه وسلم : (هل تدري ما حق العباد على الله عز وجل إذا فعلوا ذلك؟)
قال : قلت : الله ورسوله أعلم قال صل الله عليه وسلم : (أن لا يعذبهم) أو قال : (أن لا يدخلهم النار)
( التوحيد : (28) بحار الأنوار : (3/10)

فأنت ترى أن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده لا شريك له وبذلك أمرهم سبحانه وتعالى وقد بعث الله الرسل عليهم السلام من أولهم إلى خاتمهم وهو المصطفى صل الله عليه وسلم ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار والعياذ بالله

المبحث الثاني :
فضل التوحيد وأقسامه

سبق أن بينا أن الله خلق الإنس والجن من أجل تحقيق العبادة الخالصة له وما ذلك إلا لعظمها وفضلها ولذلك أثنى الله سبحانه على إبراهيم عليه السلام وشهد له أنه على الدين الحنيف ولم يكن من المشركين كما قال سبحانه :
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
[النحل : 120]

قال أمين الدين الطبرسي :
((كَانَ أُمَّةً)) كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير وقال مجاهد : كان مؤمناً وحده منفرداً دهره بالتوحيد والناس كفار

قال قتادة : كان إماماً هدى قدوة يؤتم به ((قَانِتاً)) مطيعاً ((لِلَّهِ)) دائماً على عبادته ((حَنِيفاً)) مستقيماً في الطاعة مائلاً إلى الإسلام غير زائل عنه ((وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) تكذيب لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملّة إبراهيم

( تفسير جامع الجوامع : (2/312)
وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أهل الجنة وكان من أول أسباب دخولها أنهم لم يشركوا بربهم شيئاً فقال :
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)
[المؤمنون : 59]

قال الفيض الكاشاني : الذين هم بربهم لا يشركون شركاً جلياً ولا خفياً ( تفسير الصافي : (3/402) تفسير معين : (2/908) تفسير كنـز الدقائق : (9/195)
فلاحظ أنهم لم يشركوا بالله شركاً جلياً واضحاً كعبادة الأصنام ولا شركاً خفياً كالرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ونحو ذلك وهذا يدل دلالة واضحة على ضرورة العبادة التامة لله سبحانه وعدم الالتفات للناس
وقد وردت عن أئمة آل البيت عليهم السلام نصوص كثيرة في هذا المعنى منها :
- عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : سمعته يقول : ما من شيء أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله لأن الله عز وجل لا يعدله شيء ولا يشركه في الأمر أحد
( بحار الأنوار : (3/3) التوحيد : (19) ثواب الأعمال : (3) )

- وعن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (التوحيد ثمن الجنة)
( بحار الأنوار : (3/3) وانظر : الأمالي للطوسي : (569) مجموعة ورام : (2/70)

- وعن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم :
(ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة)
( بحار الأنوار : (3/5) وانظر : الاختصاص : (225) الأمالي للصدوق : (386) الأمالي للطوسي : (429، 569) التوحيد : (22)

- وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : سمعت النبي صل الله عليه وسلم يقول :
(قال الله عز وجل : إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني ومن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بإخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمِن من عذابي)
( بحار الأنوار : (3/6) وانظر : التوحيد: (24) عيون الأخبار : (2/134) كشف الغمة : (2/135)

وقد وصف النبي صل الله عليه وسلم في الحديث أناساً موحدين لله تبارك وتعالى يدخلون الجنة يوم القيامة من غير حساب لقوة تعلقهم بربهم وتوحيدهم إياه ولعدم تذللهم لغيره ولقوة اعتمادهم عليه عند المصائب والهموم فقال صل الله عليه وسلم : (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)
( بحار الأنوار : (59/70) و (60/15)

فتأمل نفسك أيها القارئ الكريم! هل أنت ممن قام بما أمره الله به من العبادة وترك الشرك؟ أو هل أنت ممن تعلق بالمخلوقين فدعاهم ورجاهم من دون الله سبحانه وتعالى؟
وبحسب إجابتك تعرف موقعك أأنت مع من أنعم الله عليهم بالتوحيد الخالص أم أنت مع الذين تذللوا لغير الله واعتمدوا على سواه من بشر وغيرهم ولكل من هؤلاء الفريقين حساب وجزاء

أقسام التوحيد :
التوحيد وإفراد الله بما يستحقه من خصائص بحسب ما جاء في القرآن ثم من خلال استقراء النصوص المباركة من قبل الأئمة عليهم السلام يمكن تقسيمه وحصره في ثلاثة أنواع : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات
وبيان كل واحد منها سيأتي مفصلاً في موضعه بإذن الله وبمعرفة التوحيد يدرك الإنسان هل هو سائر في ركب المرسلين عليهم الصلاة والسلام وكذا أتباعهم من الأئمة عليهم السلام والصالحين من بعدهم أو أنه حائد عن دربهم؟ وكل امرئ حَكَمٌ ومسئولٌ عن عمله


الفصل الثاني
توحيـــد الربوبيــة


المبحث الأول :
التعريف بتوحيد الربوبية
وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال الغيث وإنبات الزرع
ومعناه : إيمان المسلم بوحدانية الله عز وجل والاعتقاد الجازم بأنه لا خالق ولا مالك ولا متصرف أو مدبر في الخلق والملك إلا هو سبحانه لا شريك له ولا ند له

وهذه العقيدة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا ينكرها ولا يماري فيها إلا جاهل أو متكبر فينبغي على العبد أن يعلم أن الله سبحانه له الخلق والملك والتدبير

وأدلة ذلك من كتاب ربنا سبحانه وتعالى كثيرة فمما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالخلق قوله سبحانه :
(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)
[فاطر : 3]
ومما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالملك قوله سبحانه وتعالى :
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
[الملك : 1]
ومما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالتدبير قوله سبحانه :
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
[الأعراف : 54]

ولقد أقر كفار قريش بهذه العقيدة وهم من أكابر الوثنيين فكانوا يعلمون حقيقة أن الله عز وجل هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا رزق إلا من عنده ولا يحيي ولا يميت إلا هو ولا مدبر للأمور إلا هو وأن جميع السموات ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن تحت تصرفه وقهره
قال تعالى :
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
[العنكبوت : 61]
وقال سبحانه :
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ)
[يونس : 31-32]
وقال عز ثناؤه :
(قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ)
[المؤمنون : 84-89]

لكن في عصرنا الحاضر نرى كثيراً من الناس يخالفون فطرة الله عز وجل في خلقه معتقدين بأن للأولياء والصالحين حق التصرف والتدبير في خلق الله وملكه معه سبحانه وخاصة آل البيت عليهم السلام كعلي بن أبي طالب عليه السلام

فقد نسبوا زوراً لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بأنه هو رب الأرض
( بحار الأنوار : (7/326) و (7/194) وانظر : تأويل الآيات : (736)
وأنه المتصرف بالدنيا والآخرة كيف يشاء
( الكافي : (1/408)
وله جزئية إلهية في الخلق والرزق وإحياء الأموات
( انظر : بحار الأنوار : (42/17-50) (باب جوامع معجزاته) (42/50-56) باب غرائب معجزاته وانظر كتاب : مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني )
وقد أحيا رسول الله صل الله عليه وسلم
( انظر : إرشاد القلوب : (265)
وله من الأمر ما يشاء من استحضار السحب وإنزال الأمطار وصوت الرعود
( بحار الأنوار : (27/32) الاختصاص : (327)
بل زادوا في ذلك بأن بمقدوره عليه السلام أن يركب السحاب ويذهب عليها لأي مكان يريد ( الاختصاص : (199)
سالكين في إمكانية وقوع هذه الخوارق مخرجاً سمجاً لا ينطلي على العقلاء وهو أن هذه الأمور والأعمال الخارقة كلها قد أذن الله في وقوعها على يده وهذا القول زعموه من بعد عجزهم عن إيجاد دليل وحجة من القرآن أو السنة النبوية المباركة على ذلك
وهذه المعتقدات الخطيرة منافية لتوحيد الله عز وجل في ربوبيته لأن الله جل شأنه يقول :
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
[البقرة : 107]

وقال تعالى :
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)
[الفرقان : 2]

وقال تعالى :
(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)
[فاطر : 3]

وقال تعالى :
(الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ)
[الروم : 48]

وقال تعالى :
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)
[الرعد : 12]

وقد ذكر العلامة الكشي في رجاله بأن أقواماً من الناس يُحَدِّثون الناس بأحاديث منكرة ومكذوبة على جعفر بن محمد عليه السلام وعلى آله الطاهرين عليهم السلام فيزعمون : بأن علياً في السحاب يطير مع الريح وأنه كان يتكلم بعد الموت وأنه كان يتحرك على المغتسل وأن إله السماء وإله الأرض الإمام فجعلوا لله شريكاً جهلاً وضلالاً والله ما قال جعفر شيئاً من هذا قط، وكان جعفر أتقى لله وأورع من ذلك فسمع الناس ذلك فضعفوه ولو رأيت جعفرَ لعلمت أنه واحد الناس
( رجال الكشي : (324) بحار الأنوار : (25/302)

وهنا قد يتساءل العاقل اللبيب ويقـول : كيـف نوفـق بين ما نعتقده في توحيد الله عز وجل في خلقه وملكه وتدبيره وحده لا شريك له وأنه لا ند ولا نظير له وبين ما جرى للأنبياء والرسل والأولياء من المعاجز والكرامات الكثيرة : من إحياء الموتى وشفاء المرضى وتحويل العصا إلى ثعبان وغيرها أليس في ذلك مشاركة في التصرف بخلق الله وملكه؟

والجواب من وجوه :
أولاً : أننا لا ننكر ما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من الآيات والمعجزات ولا ننكر ما يحصل للأولياء والصالحين من الكرامات لأنه حق ثابت ورد في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه محمد صل الله عليه وسلم ومما أجمع أئمة الإسلام عليه
قال تعالى :
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)
[يونس : 62-63]
فكل مؤمن هو ولي لله عز وجل بقدر إيمانه وتقواه وقد يُظهر الله على يديه ما يظهر من خوارق العادات وهي الكرامات

ثانياً : لا بد للمسلم أن يتأكد من صحة الروايات التي تُروى عن كرامات الأولياء والصالحين حتى لا ينسب إليهم أعمالاً لم يعملوها وهذا يدخله في الكذب كما كُذِب على أمير المؤمنين علي عليه السلام فنسبوا إليه كرامات وأقوالاً وأعمالاً لم يعملها كما أسلفنا في القول من قبل

ثالثاً : ليس بلازم أن كل ولي تقع له كرامة لابد أن تقع لغيره من الأولياء وليس بحتم لازم أن كل من ظهرت له كرامة فهى الدلالة على أنه أفضل من غيره من الأولياء
والعكس صحيح من أن عدم وقوعها لا يدل على نقصهم لأن وقوع الكرامة تأييد وتثبيت وإعانة للشخص في دينه ولهذا كانت الكرامات في عهد التابعين أكثر منها في عهد الصحابة رضي الله عنهم لأن الصحابة رضي الله عنهم عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات وهو وجود النبي صل الله عليه وسلم ووقوعها بعد عهد التابعين كان أكثر ممن قبلهم وهذا معلوم مشاهد
فلا يلزم على هذا أن تقع الكرامات والمعاجز لكل ولي بل الكثير من الأولياء لم تحصل لهم الخوارق

رابعاً : قد تُنسب بعض الكرامات زوراً إلى بعض الناس لأننا لوفتشنا عن دلائل إيمان هذا الرجل والتزامه بالهدي النبوي لوجدناه عاصياً مفرطاً في الطاعات لا يحافظ على الصلوات المفروضة فضلاً عن محافظته على السنن المؤكدة بل قد نجده أيضاً يدعو غير الله ويتوجه بالعبادات إلى الأموات فكيف يمكن أن نطلق على مثل هذا أنه ولي متقٍ يحبه الله ويتولاه؟!
ولنتذكر أن أعظم كرامة تقع للعبد المسلم هي هدايته إلى الحق وثباته على الصراط المستقيم وفق ما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم وفهمه ونشره أصحابه وآله رضي الله عنهم
وبعد ما سبق بيانه نحتاج إلى التوسع شيئاً قليلاً في جانب من جوانب توحيد الربوبية وهو معتقد توحيد الله بالتدبير وأن الله سبحانه له الخلق والأمر أو ما يسمى الإيمان بالقضاء والقدر

المبحث الثاني :
الإيمان بالقضاء والقدر
يؤمن المسلم بقضاء الله وقدره وحكمته ومشيئته وأنه لا يقع شيء في الوجود أو في أفعال العباد إلاّ بعد علم الله به وتقديره وأنه تعالى عدلٌ في قضائه وقدرته حكيم في تصرفه وتدبيره وأن حكمته تابعة لمشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة لأحد إلا به سبحانه
قال رسول الله صل الله عليه وسلم :
(لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)
( التوحيد : (379)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر
( بحار الأنوار : (5/120)
وبيّن الإمام أبو الحسن موسى عليه السلام لأحد الأتباع معنى القضاء والقدر بياناً شافياً فقال له : لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى قلت : ما معنى شاء؟ قال : ابتداء الفعل قلت : ما معنى قدر؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه قلت : ما معنى قضى؟ قال : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له
( الكافي : (1/150) بحار الأنوار : (5/122) المحاسن : (1/244)
واعلم أن الإيمان بقضاء الله وقدره يتضمن أربعة أمور لا ينفصل بعضها عن الآخر وهي :
الأول : الإيمان بأن الله تعالى عَلِم بكل شيء جملةً وتفصيلاً أزلاً وأبداً سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله سبحانه أو بأفعال عباده
قال تعالى :
(وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)
[طه : 98]

الثاني : الإيمان بأن الله كتب مقادير الخلق في اللوح المحفوظ عنده
فيؤمن أهل السعادة والإتباع الصحيح للنبي صل الله عليه وسلم وآله عليهم السلام أن الله سبحانه قد علم كل ما يكون وما سيكون قبل أن يخلق الخلق وأنه سبحانه قد وسع كل شيء علماً فلا يقع أمر في ملكه إلا بعلمه ولا يخفى عليه أي أمر يحدث من أحد من خلقه حتى قبل أن يفعله العبد يعلمه الله سبحانه وتعالى وهذا يدل على أنه قد أحاط علمه بكل شيء سبحانه
وهذا العلم الأزلي قد تم تدوينه في اللوح المحفوظ عنده سبحانه في السموات العلى

قال سبحانه وتعالى :
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
[الحج : 70]
قال أمين الدين أبو علي الطبرسي :
وهذا تسلية لرسول الله صل الله عليه وسلم مما كان يلقاه منهم أي : وكيف يخفى عليه أعمالهم وقد علم بالدليل أنه سبحانه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح المحفوظ قبل حدوثه وحفظ ذلك وإثباته والإحاطة به عليه يسير
( تفسير جامع الجوامع : (3/59)
وقال تعالى :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
[الحديد : 22]
قال أمين الدين أبو علي الطبرسي :
((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ)) مثل : قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات ((وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) من الأمراض والثكل بالأولاد ((إِلاَّ فِي كِتَابٍ)) يعني : إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ ((مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي : من قبل أن نخلق الأنفس والمعنى : أنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها
( تفسير مجمع البيان : (5/240) تفسير شبر : (1/540)

وقال تعالى :
(قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)
[الطلاق:3]
قال أمين الدين الطبرسي :
أي تقديراً وتوقيتاً وفيه بيان لوجوب التوكل على الله لأنه إذا علم كل شيء بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم لذلك والتفويض إليه
( تفسير جامع الجوامع : (4/706) وانظر : التبيان : (10/33) الجديد : (7/178)
وقال الكاشاني في قوله تعالى :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)
[التغابن : 11] : إلا بتقديره ومشيئته
( الصافي : (5/184) تفسير المعين : (3/1521)

أما السيد عبدالله شبر فقال :
بقضائه وعلمه
( تفسير شبر : (1/557) انظر : تفسير الجوهر الثمين : (6/227)
وقال السيد محمد الحسيني الشيرازي :
فالله سبحانه هو الذي يقدر الأشياء فلولا تقديره لم يقع شيء في الكون
( تفسير تقريب القرآن : (28/129)
وقال ناصر مكارم الشيرازي :
فما يجري من حوادث كلها بإذن الله لا يخرج عن إرادته أبداً وهذا هو معنى (التوحيد الأفعالي) وإنما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائماً ويشغل تفكيره وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله فإنما نعني الإرادة التكوينية لا الإرادة التشريعية
( تفسير الأمثل : (18/355)
وعن حمدان بن سلمان قال :
كتبت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن أفعال العباد : أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ فكتب : أفعال العباد مقدرة في علم الله تعالى قبل خلق العباد بألفي عام
( عيون الأخبار : (1/136) كنـز الدقائق : (18/135) بحار الأنوار : (5/29) التوحيد : (416)
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال :
قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (إن الله عز وجل قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام)
( التوحيد : (376) بحار الأنوار : (5/93) عيون الأخبار : (1/140) (2/31)
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال :
أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتبْ فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة
( بحار الأنوار : (54/366) تفسير القمي : (2/198)
وعن ابن عباس قال : إن أول­ ما خلق الله من شيء القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة والكتاب عنده ثم قرأ :
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)
[الزخرف : 4]
( بحار الأنوار : (54/371)
وقال مير سيد علي الحائري :
قال صل الله عليه وسلم : (يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول : أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيقول : أي رب! أذكر أم أنثى؟ فيكتبان ويكتب عمله ورزقه وأجله ثم يطوي الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ثم يقول الملك : يا رب! ما أصنع بهذا الكتاب؟ فيقول : علقه في عنقه إلى قضائي عليه
أقول ( أي صاحب التفسير : مير سيد علي الحائري : ولا يتنافى هذا مع اختيار العبد الصلاح والفساد ولا يدل على الجبر في الشقاوة والسعادة لأن المراد بهذا الكتاب إظهار علمه للملك وليست هذه الكتابة من موجبات الفعل أبداً بل هو إظهار سابق علمه تعالى بأن هذا العبد يؤول أمره إلى هذا فمثاله مثال أنك تعلم من ضمير السلطان أنه يقتل غداً زيداً السارق فتخبر ابنك بأن زيداً غداً مقتول فيُقتل غداً فهل القتل مسبب عن خبرك لابنك أو أن إخبارك له من موجبات قتله؟ فالحال الحال والمثال المثال فأمر الله تعالى للملك بالكتابة لسابقة علمه لا أنه قضى عليه بالسعادة أو الشقاوة نعم! الجبر حاصل في التكوينيات كالذكر والأنثى والطول والقصر ومثالها وذلك لمقتضى الحكم، لكن الأفعال الصادرة منك بحسب مشتهيات نفسك اختيارية وإنما دواعيها ميل خاطرك ونفسك
( تفسير مقتنيات الدرر : (2/162) وانظر : بحار الأنوار : (57/383) انتهى

الثالث : الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين
قال تعالى :
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
[التكوير : 29]
قال السيد محمد حسين فضل الله :
فقد تملكون في كيانكم حركة المشيئة الذاتية فيما تملكون من عناصر الاختيار ولكن مشيئتهم لابد أن تخضع للمشيئة الإلهية في تقدير النظام الكوني الذي تتحرك الأشياء في دائرته فلا يملك العبد استقلالاً مطلقاً عن الله حتى في نطاق حريته المربوطة بالمشيئة الإلهية بطريقة أخرى
( تفسير من وحي القرآن : (24/111)
وقال تعالى :
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)
[إبراهيم : 27]
قال السيد عبدالله شبر:
من تثبيت المؤمن وتَخلِيَة الكافر وكفره
( تفسير شبر: (1/259) وانظر : الجوهر الثمين : (3/359)
وقال محمد حسين فضل الله :
مما تقتضيه الحكمة في تدبير أمور الناس وفي شؤون الحياة لأنه هو الذي لا راد لمشيئته فإذا أراد شيئاً كان
( تفسير من وحي القرآن : (13/129)
وقال تعالى :
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ)
[النساء : 90]
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي :
وهذا إخبار عن مقدوره تعالى فلو أراد فإنه يفعل ويجعلهم يقاتلونكم ولكن لم يشأ بل قذف في قلوبهم الرعب
( تفسير الجديد : (2/322) وانظر : مقتنيات الدرر : (3/152)
وقال محمد جواد مغنية :
إن الله سبحانه لا يتدخل بمشيئته التكوينية في شيء من أمور الناس والمسلمين ولكن الله سبحانه صرفهم عن ذلك بوقوفهم على الحياد فقوله :
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ)
[النساء : 90]
معناه : لجرّأهم عليكم ولم يجعل لكم هيبة في نفوسهم تبعثهم على طلب الموادعة والمتاركة وليس هذا من باب المشيئة التكوينية بل من المشيئة التوقيفية إن صح التعبير
( الكاشف : (2/402)

وأعمال الإنسان متنوعة وكلها واقعة بعلم الله سبحانه وبقدره وفق ما بينه أمير المؤمنين
فجاء عن الحسين بن علي عليه السلام قال : سمعت أبي علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض وفضائل ومعاصي فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيئته وعلمه وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدرة الله وبمشيئة الله وبعلم الله وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبعلمه ثم يعاقب عليها
( التوحيد : (369) بحار الأنوار : (5/29) عيون الأخبار : (1/142) كشف الغمة : (2/288)
وإذا فهم المسلم المعنى الحق لمفهوم القضاء والقدر ذهب عنه إشكال ٌولبسٌ كبير في هذا المعتقد
فعن يونس قال : قال الرضا عليه السلام : يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس فإن أهل الجنة قالوا : (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ولم يقولوا بقول أهل النار فإن أهل النار قالوا : (ربنا غلبت علينا شقوتنا) وقال إبليس : (رب بما أغويتني فقلت : يا سيدي والله ما أقول بقولهم ولكني أقول : لا يكون إلا ما شاء الله وقضى وقدر فقال : ليس هكذا يا يونس ولكن لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى أتدري ما المشيئة يا يونس؟ قلت : لا قال : هو الذِكْرُ الأول وتدري ما الإرادة؟ قلت : لا قال : العزيمة على ما شاء وتدري ما التقدير؟ قلت : لا قال : هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء وتدري ما القضاء؟ قلت : لا قال : هو إقامة العين ولا يكون إلا ما شاء الله في الذكر الأول
( بحار الأنوار : (5/116) تفسير القمي : (1/24)

الرابع : الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها وصفاتها وحركاتها
قال تعالى :
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)
[الزمر : 62]
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم أنه قال لقومه :
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)
[الصافات : 96]
وقال تعالى :
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)
[الفرقان : 2]
وعن الرضا عليه السلام فيما كتب للمأمون : من محض الإسلام أن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وأن أفعال العباد مخلوقة لله خلق تكوين والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض
( بحار الأنوار : (5/30)

المطلب الأول :
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر

إن الإيمان بالقضاء والقدر له ثمرات عظيمة في صحة عقيدة وإيمان المسلم
فمن ثمراته : طمأنينة القلب وارتياحه وعدم التقلب وعدم القلق في هذه الحياة لأن المؤمن بقضاء الله وقدره لا يتأثر بما يتعرض له من مشاق الحياة لأنه مؤمن بما يصيبه فهو مقدَّر لابد ولا راد له
قال تعالى :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
[الحديد : 22]
لذلك فإن المؤمن بالقضاء والقدر يشعر بالطمأنينة والشكر لربه عند قول النبي صل الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام : (ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن يصيبك)
( بحار الأنوار : (2/154) أعلام الدين : (346) الخصال : (2/543)
بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر فإنه تأخذه الهموم والأحزان حتى تضيق به الدنيا ويحاول الخلاص منها ولو بالانتحار
ومنها : الثبات على مواجهة الأزمات واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت ويقين صادق لا تزلزله الأحداث لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان كما قال تعالى :
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
[الملك : 2]
وقال تعالى :
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)
[محمد : 31]
لذلك فإن الأنبياء والرسل جرى لهم من المحن والشدائد الكثير لكنهم واجهوها بالإيمان الصادق والعزم الثابت حتى اجتازوها بنجاح وما ذاك إلا لإيمانهم بقضاء الله وقدره واستشهادهم به ولتذكرهم الدائم بقوله تعالى :
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)
[التوبة : 51]
ومنها : تحويل المحن إلى منح والمصائب إلى أجر قال تعالى :
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
[التغابن : 11]
قال الشيخ محمد باقر الناصري :
أي بعلم الله أو بمعنى تَخليَة الله بينكم وبين من يريد فعلها وقيل : هو خاص فيما يفعله تعالى أو يأمر به ومن يؤمن بالله ويرضى بقضائه يهد الله قلبه حتى يصبر ولا يجزع لينال الثواب وقيل : إن المعنى : يهد قلبه فإن ابتلي صبر وإن أعطي شكر وإن ظلم غفر
( مختصر مجمع البيان : (3/431)
ومن الثمرات أيضاً : الاعتماد على الله تعالى عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى وأن لا يعجب بنفسه عند حصوله على مراده لأن حصوله نعمة من الله تعالى بما قدره من أسباب الخير والنجاح وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة

المطلب الثاني :
المنحرفون في القدر

من الطوائف التي ضلت في اعتقادها بالقضاء والقدر : القدرية والجبرية
فالجبرية قالوا : إن العبد مجبر على عمله من عند الله وليس له به إرادة ولا قدرة
وقولهم معلوم بطلانه عند أهل الإيمان لأنهم يعلمون أن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة وأضاف العمل إليه قال تعالى :
(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)
[آل عمران : 152]
وقال تعالى :
(وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)
[الكهف : 29]
وقال تعالى :
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)
[فصلت : 46]
وأما القدرية فقالوا : إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر فلا يعلم الله شيئاً إلا بعد وقوعه من العبد
وبيان بطلان اعتقادهم واضح كبطلان قول الجبرية وذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وكل شيء كائن بمشيئته سبحانه وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته قال تعالى :
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)
[البقرة : 253]
والاعتقاد الصحيح الذي يتوسط هذين الطرفين والذي أجمع عليه المسلمون من فهمهم لكتاب الله عز وجل ولسنة النبي المصطفى صل الله عليه وسلم أن ما يقع على العبد من المصائب أو يكون بفعله من الأعمال علمُه عند الله عز وجل علم أزلي من قبل أن يخلق السموات والأرض وكتبها من بعد ذلك وأثبتها في اللوح المحفوظ وشاء الله أن يحصل هذا الفعل للعبد فخلقه في هذه الدنيا ويسر له ما أراد فعله قال تعالى :
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)
[الصافات : 96]
فهذه العقيدة مفتاح إلى السعادة وإلى المعتقد المبارك الذي ينبغي على كل مسلم أن يحققه في نفسه فمن علم أن الله بيده كل شيء وأنه المتصرف في كونه والمدبر له من بعد خلقه له يجد ذلاً وفقراً واحتياجاً إليه سبحانه فلن يدعو إلا العزيز القوي ولن يتوكل إلا على الحي القيوم ولن يلجأ إلى أحد من الخلق الضعفاء المفتقرين إلى عون الله سبحانه وتعالى

المطلب الثالث :
الصبر على قضاء الله وقدره

من الأمور الهامة المتعلقة بمعتقد القضاء والقدر الصبر على ما قدره الله سبحانه والرضا به وهذا مطلب هام يغفل عنه بعض أهل الإسلام
والصبر : هو حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكّي والتسخّط وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها عند المصيبة والرضا بما قدره الله

والصبر على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : الصبر على ما أمر الله به
النوع الثاني : الصبر عن ما نهى الله عنه
النوع الثالث : الصبر على قضاء الله وقدره عند المصائب وهذا هو محور البحث
فاعلم رحمك الله أن عدم الصبر على قضاء الله وقدره يسخط الرب وينافي كمال التوحيد لما فيه من عدم الاستسلام والرضا والإيمان بقضاء الله وقدره
فيجب على المؤمن أن يصبر على ما أصابه وليعلم بأن الله عز وجل قد قدّر له ذلك وأن يستسلم له بإخلاص ومن فعل ذلك يعوضه ربه عما أصابه وما فاته في الدنيا والآخرة
قال تعالى :
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)
[البقرة : 155-157]
وقد مر النبي صل الله عليه وسلم على امرأة وهي تبكي عند قبر ولدها فنهاها عن ذلك وأمرها بالصبر وقال لها : الأجر مع الصدمة الأولى
( مستدرك الوسائل : (2/351) وانظر أيضاً : بحار الأنوار : (79/93) دعائم الإسلام : (1/222)
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : من رضي القضاء أتى عليه القضاء وهو مأجور ومن سخط القضاء أتى عليه القضاء وأحبط الله عمله
وروي عنه عليه السلام : رأس طاعة الله الصبر والرضا
وروي عنه عليه السلام : أعلمُ الناس بالله أرضاهم بقضاء الله
( مستدرك الوسائل : (2/411) انتهى
وفي عصرنا الحاضر نرى كثيراً من المسلمين هداهم الله للحق يقومون بإحياء ذكرى وفاة بعض الأولياء والصالحين واستشهادهم ويقومون بأعمال مخالفة لما شرع الله عز وجل، ومخالفة لما نهى عنه النبي صل الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام من لطم للخدود وشق للجيوب وضرب للرؤوس بالخناجر والسيوف وضرب الطبول ولبس السواد والإتيان بالشعراء والشاعرات وغيرها معتقدين بأنها تحيي ذكراهم وتقربهم عند النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام وتشفعهم فيهم

ويمكن توضيح الصواب والمنهج الحق في هذا المعتقد وفق الأمور الأتية :
أولاً : إن الاحتفال بيوم الميلاد أو الوفاة ليس من هدي النبي صل الله عليه وسلم بل هو من هدي المخالفين لشريعة الإسلام
فقد قُتل بعض الأنبياء وعذبوا وهم مرسلون من الله عز وجل لدعوة البشر وتعليمهم منهم : نبي الله زكريا الذي قُتل وعُذب وقطع رأسه وأحرق ثم من بعد ذلك وقع هذا الفعل الشنيع في بعض الصحابة رضي الله عنهم مثلما حصل لحمزة وجعفر بن أبي طالب وحنظلة رضي الله عنهم وغيرهم حتى إن النبي صل الله عليه وسلم بكى واشتد حزنه عليهم إلا أنه لم يأمر الصحابة بإقامة المآتم لهم ومجالس العزاء والندب أو باتخاذ هذه الأيام مناسبة أو أعياداً لذكرى وفاتهم مثلما يفعل بعض الناس في هذا العصر

ثانياً : إن الله عز وجل حثنا على الصبر في كثير من الآيات في القرآن الكريم وكذلك فعل النبي صل الله عليه وسلم وأقوال الأئمة عليهم السلام ليست ببعيدة عنا وعلى ما جاء فيها من احتساب الأجر كما سبق ذكره

ثالثاً : إن الأعمال التي يعملها الناس في هذا العصر من لبس السواد وضرب الرؤوس بالسيوف والسلاسل وغيرها مخالفة لأمر النبي صل الله عليه وسلم وكذلك لأقوال الأئمة عليهم السلام
فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم :
(أربعة لا تزال في أمتي إلى يوم القيامة : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والنياحة)
( بحار الأنوار : (22/451) وانظر : مستدرك الوسائل : (13/93) وسائل الشيعة : (17/128) الخصال : (1/226)

وهـذا ما حققه عملياً عليه السلام ونصح به المسلمين حينما ورد الكوفــة قادماً من صفين فلما مر بالشاميين وسمع بكاء الناس على قتلى صفين فقال عليه السلام لشرحبيل الشامي : أتغلبكم نساؤكم على ما أسمع؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟
( نهج البلاغة : (532) وسائل الشيعة : (3/275) مستدرك الوسائل : (2/455) بحار الأنوار : (32/619)

وهذا ما سار عليه آله عليهم السلام فعن الصادق عن آبائه قال : نهى رسول الله صل الله عليه وسلم عن الرَنَّة عند المصيبة ونهى عن النياحة والاستماع إليها ونهى عن اتباع النساء للجنائز
( بحار الأنوار : (78/257) من لا يحضره الفقيه : (4/3) وسائل الشيعة : (3/272) وانظر : أمالي الصدوق : (422)

وكان من تحذيراته صل الله عليه وسلم للنساء خاصة في أواخر حياته ما جاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
لما فتح رسول الله صل الله عليه وسلم مكة بايع الرجال ثم جاء النساء فقالت أم حكيم : يا رسول الله ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ فقال : (لا تلطمن خداً ولا تخمشن وجهاً ولا تنتفن شعراً ولا تَشُقنَّ جيباً ولا تسوِّدنَّ ثوباً)
( انظر : بحار الأنوار : (21/134) الكافي : (5/527) مستدرك الوسائل : (2/449) وسائل الشيعة : (20/211) تفسير القمي : (2/364)

حتى ولو كان إظهار الحزن في اللباس دون صراخ أو عويل ولطم لقول أمير المؤمنين عليه السلام فيما علم أصحابه : لا تلبسوا السواد فإنه لباس فرعون
( من لا يحضره الفقيه : (1/251) وسائل الشيعة : (4/383) وانظر : الخصال : (2/614) علل الشرائع : (2/346)

وعن محسن بن أحمد قال :
قلت لأبى عبد الله عليه السلام : أُصلّي في القُلُنُسَوة السوداء؟ فقال : لا تصلّ فيها فإنها لباس أهل النار
( الكافي : (3/403) تهذيب الأحكام : (2/213) وسائل الشيعة : (4/384) علل الشرائع : (2/346)

وقد يتعاطف كثير من الناس مع ما حدث للإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته الطاهرين من الظلم وسفك للدماء فيحيون ما وقع لهم يقولون : إننا نعمل تلك العروض من ضرب بالسيوف والسلاسل ولطم الخدود وغيرها لإحياء ذكرى يوم استشهاد الإمام الحسين عليه السلام الذي لم يصب أحد من المسلمين بمثل مصيبته

وفرق بين التعاطف والشعور الإيجابي تجاه المصاب بالحسين عليه السلام وبين أن المسلم تقوده عواطفه إلى أن يفعل المخالفات تجاه آل البيت عليهم السلام وهذه المقولة والحجة التي يبرر بها فعل بعض المسلمين تجاه مصابنا في حق سيد شباب أهل الجنة يمكن أن توجه للحق وفق الأمر التالي :

إن وفاة النبي صل الله عليه وسلم وفقدان الأمة الإسلامية له أعظم من قتل الأنبياء والرسل والصالحين لا يستثنى منهم أحد

فعن عمر بن سعيد بن هلال قال :
قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أوصني؟ قال : أوصيك بتقوى الله -إلى أن قال-: وإذا أصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله صل الله عليه وسلم فإن الناس لم يصابوا بمثله أبداً
( مستدرك الوسائل : (2/443) وانظر : الكافي : (8/168) بحار الأنوار : (22/545) أمالي الصدوق : (681) أمالي المفيد: (194)

ومع أن مصابنا بالنبي صل الله عليه وسلم كان أعظم من مصائب الناس أجمعين إلا أن النبي صل الله عليه وسلم أوصى ابنته الحبيبة وسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام بالصبر والتزامها الشرع الصحيح عند وفاته
فعن عمر بن أبي المقداد قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : تدرون ما قوله تعالى :
(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)
[الممتحنة : 12]
قلت : لا
قال : إن رسول الله صل الله عليه وسلم قال لفاطمة عليها السلام : (إذا أنا مت فلا تخمشي عليَّ وجهاً ولا ترخي عليَّ شعراً ولا تنادي بالويل والثبور ولا تقيمي عليَّ نائحة
قال : إن هذا المعروف الذي قال الله عز وجل)
( مستدرك الوسائل : (2/451) وانظر: الكافي : (5/527) وسائل الشيعة : (3/272) بحار الأنوار (22/460)
وأما الحسين عليه السلام الذي ينتسب إليه كثير من الناس ويبكون ليوم استشهاده فقد حرّم هذه الأفاعيل أيضاً وتبرأ منها ناهجاً سنة جده المصطفى صل الله عليه وسلم
فعن محمد بن علي عليه السلام قال : لما هَمَّ الحسين بالشخوص إلى المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة فمشى فيهن الحسين عليه السلام فقال : أنشدكن بالله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ورسوله
( مستدرك الوسائل : (2/453)
وعن علي بن الحسين عليه السلام قال : إن الحسين قال لأخته زينب : يا أختاه! إني أقسمت عليك فأبرِّي قسمي : لا تشقي عليَّ جيباً ولا تخمشي عليَّ وجهاً ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت
( مستدرك الوسائل : (2/451) وانظر : بحار الأنوار : (45/2) الإرشاد : (2/93) : إعلام الورى : (239)
وقد يتعجب كثير من الناس من هذا الكلام ويتساءلون : كيف ينهى النبي صل الله عليه وسلم عن البكاء وقد بكى نبي الله يعقوب عليه السلام عند فقدان ابنه حتى ابيضّت عيناه؟ ألا ينافي ذلك الصبر على قضاء الله وقدره؟

فنقول : إن النبي صل الله عليه وسلم لم ينه عن البكاء ولكنه نهى عن غير ذلك مما قد يصاحب البكاء والحزن : من لطم الخدود وضرب الصدور بالسلاسل وشق الرؤوس بالخناجر والسيوف ونهى عن الصراخ والنياحة والعويل ولبس السواد والإتيان بالشاعرات والنائحات وغيرها من الأعمال الوحشية كما أسلفنا
وقد قال صل الله عليه وسلم يوم وفاة ابنه إبراهيم : (ما كان من حزن في القلب أو العين فإنما هو رحمة، وما كان من حزن اللسان وباليد فهو من الشيطان)
( مستدرك الوسائل : (2/463)
وأما نبي الله يعقوب عليه السلام فقد صبر على قضاء الله وقدره عندما فقد ابنه يوسف عليه السلام كما قال الله عز وجل عن نبيه يعقوب :
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)
[يوسف : 18]
يقول ناصر مكارم الشيرازي عن شدة بكاء نبي الله يعقوب عليه السلام :
إن قلوب العباد مركز للعواطف فلا عجب أن ينهل دمع عينهم مدراراً المهم أن يسيطروا على أنفسهم ولا يفقدوا توازنهم ولا يقولوا شيئاً يسخط الرب ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه إلى النبي صل الله عليه وسلم حين بكى على موت ولده إبراهيم حيث قالوا له : يارسول الله أتنهانا عن البكاء وتبكي؟ فأجابهم النبي الكريم صل الله عليه وسلم : (تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب) وفي رواية أخرى أنه قال : (ليس هذا بكاء إنه رحمة) وهذه إشارة إلى أن ما في صدر الإنسان هو القلب وليس الحجر وطبيعي أن يتأثر الإنسان أمام المسائل العاطفية وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع
( تفسير الأمثل وانظر : تفسير الكاشف وتفسير من وحي القرآن (سورة يوسف : 18)
إذاً : يجب على من يحب النبي صل الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه أن يسير على نهجهم ويتبع أمرهم الذي يحث على التمسك بالشرع ولا يخالف كتاب الله الذي أمر بالصبر والمصابرة عند المصائب

ليست هناك تعليقات