صفة صلاة النبي صل الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها الجزء الثالث


صفة صلاة النبي صل الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها
تأليف محمد ناصر الدين الألباني
شبهات وجوابها

ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة هذا الكتاب وقد ظهر لنا في هذه البرهة أن له تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن لإرشادهم إلى وجوب العودة في دينهم وعبادتهم إلى المنبع الصافي من الإسلام : الكتاب والسنة فقد ازداد فيهم - والحمد لله - العاملون بالسنة والمتعبدون بها حتى صاروا معروفين بذلك غير أني لمست من بعضهم توقفاا عن الاندفاع إلى العمل بها لا شكا في وجوب ذلك بعد ما سقنا من الآيات والأخبار عن الأئمة في الأمر بالرجوع إليهاا ولكن لشبهات يسمعونها من بعض المشايخ المقلدين لذا رأيت أن أتعرض لذكرها والرد عليها لعل ذلك البعض يندفع بعد ذلك إلى العمل بالسنة مع العاملين بها فيكون من الفرقة الناجية بإذن الله تعالى

1 -
قال بعضهم : لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صل الله عليه وسلم في شؤون ديننا أمر واجب لا سيما فيما كانن منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها لأنها توقيفية كالصلاة مثلا ولكننا لا نكاد نسمع أحدا من المشايخخ المقلدين يأمر بذلك بل نجدهم يقرون الاختلاف ويزعمون أنها توسعة على الأمة ويحتجون على ذلك بحديث - طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة - : ( اختلاف أمتي رحمة ) فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالفف المنهج الذي تدعو  إليه وألفت كتابك هذا وغيره عليه فما قولك في هذا الحديث

والجواب من وجهين :
الأول : أن الحديث لا يصح بل هو باطل لا أصل له قال العلامة السبكي :
( لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع )
قلت : وإنما روي بلفظ : (. . . اختلاف أصحابي لكم رحمة) و (أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم)
وكلاهما لا يصح : الأول واه جدا والآخر موضوع وقد حققت القول في ذلك كله في
( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة رقم 58 و59 و61 )

الثاني : أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم فإن الآيات الواردة فيه - في النهي عن الاختلاف في الدين والأمر بالاتفاق فيه - أشهر من أن تذكر ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال قال تعالى :
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
[ الأنفال 46 ]
وقال :
ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
[ الروم 31 - 32 ]
وقال :
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك
[ هود 118 - 119 ]
فإذا كان من رحم ربكك لا يختلفون وإنما يختلف أهل الباطل فكيف يعقل أن يكون الاختلاف  رحمة
فثبت أن هذا الحديث لا يصح لا سندا ولا متنا (ومن شاء البسط في ذلك فعليه بالمصدر السابق) وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة

2 -
وقال آخرون : إذا كان الاختلاف في الدين منهيا عنه فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم وهلل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين
فالجواب : نعم هناك فرق كبير بين الاختلافين ويظهر ذلك في شيئين :
الأول : سببه
والآخر : أثره
فأما اختلاف الصحابة فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم لا اختيارا منهم للخلاف يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم
(راجع الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم و حجة الله البالغة للدهلوي أو رسالته الخاصة بهذا البحث عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد)

ومثل هذا الاختلاف لا يمكنن الخلاص منه كليا ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها لعدم تحقق شرط المؤاخذة وهو القصد أوو الإصرار عليه
وأما الاختلاف القائم بين المقلدة فلا عذر لهم فيه غالبا فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه فكأن المذهب عنده هو الأصل أو هو الدين الذي جاء به محمد صل الله عليه وسلم والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ
وآخرون منهم على النقيض من ذلك فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع - كشرائع متعددة كماا صرح بذلك بعض متأخريهم
(انظر : فيض القدير للمناوي ( 1 / 209 ) أو ( سلسلة الأحاديث الضعيفة 1 / 76 و77) :
لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء ويدع ما شاء إذ الكل شرع وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم فيي الاختلاف بذلك الحديث الباطل : ( اختلاف أمتي رحمة ) وكثيرا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك
ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم : إن الاختلاف إنما كان رحمة لأن فيه توسعة على الأمة ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة وفحوى كلمات الأئمة السابقة فقد جاء النص عن بعضهم برده
قال ابن القاسم :
( سمعت مالكا وليثا يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم : ليس كما قال ناس : ( فيه توسعة ) ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب )
(ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2 / 81 و82)
وقال أشهب :
( سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة

فقال : لا والله حتى يصيب الحق ما الحق إلا واحد قولان مختلفان يكونان صوابا جميعا ما الحق والصواب إلا واحد)
(ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2 / 82 و88 و89)

وقال المزني صاحب الإمام الشافعي :
( وقد اختلف أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم خطأ بعضهم بعضا ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ولو كانن قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة فيي الثوب الواحد إذ قال أبي : إن الصلاة في الثواب الواحد حسن جميل وقال ابن مسعود : إنما كان ذلك والثياب قليلة فخرج عمر مغضبا فقال : اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه وقدد صدق أبي ولم يأل ابن مسعود ولكني لا أسمع أحدا يختلف فيه بعد ما مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا )
(ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2 / 83 - 84 )

وقال الإمام المزني أيضا :
( يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة فقال أحدهما : حلال والآخر : حرام أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق : أبأصل قلت هذا أم بقياس فإن قال : بأصل قيل له : كيف يكون أصلا والكتاب ينفي الاختلاف وإن قلت : بقياس قيل : كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف هذا ما لا يجوزه عاقل فضلا عن عالم )
(ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2 / 89)

فإن قال قائل : يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب
( المدخل الفقهي للأستاذ الزرقا 1 / 89 ) :
( ولقد هم أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه ( الموطأ ) قانونا قضائيا للدولةة العباسية فنهاهما مالك عن ذلك وقال :
( إن أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب )
وأقول : إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله لكن قوله في آخرها : (وكل مصيب) ما لا أعلم له أصلا في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها
( راجع الانتقاء لابن عبدالبر 41 و كشف المغطا في فضلل الموطأ ص 6 - 7  للحافظ ابن عساكر و تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 195 )
اللهم إلا رواية واحدة أخرجها أبو نعيم في
( الحلية 6 / 332 )
بإسناد فيه المقدام بن داود وهو ممن أوردهم الذهبي في ( الضعفاء ) ومع ذلك فإن لفظها : ( وكلل عند نفسه مصيب ) فقوله : ( عند نفسه ) يدل على أن رواية ( المدخل ) مدخولة وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لماا رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمةة الأربعة المجتهدين وغيرهم

قال ابن عبد البر ( 2 / 88 ) :
( ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابا كله ولقد أحسن من قال : إثبات ضدين معا في حال أقبح ما يأتي من المحال)
فإن قيل : إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه
( الموطأ ) ولم يجبه إلى ذلك
فأقول : أحسن ما وقفت عيه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في ( شرح اختصار علوم الحديث ص 31 ) وهو أنن الإمام قال :
( إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها )
وذلك من تمام علمه وإنصافه كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى
فثبت أن الخلاف شر كله وليس رحمة ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان كخلاف المتعصبة للمذاهب ومنه ما لا يؤاخذ عليه كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة حشرنا الله في زمرتهم ووفقنا لاتباعهم
فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة
وخلاصته :
أن الصحابة اختلفوا اضطرارا ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا
وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منهم - فلا يتفقون ولا يسعون إليه بل يقرونه فشتان إذنن بين الاختلافين
ذلك هو الفرق من جهة السبب
وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة ويصدع الصفوف فقد كان فيهم مثلا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة ومن يرى عدم مشروعيته وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين ومن لا يراه وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة ومن لا يراه ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعا وراء إمام واحد ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي
وأما المقلدون فاختلافهم على النقيض من ذلك تماما فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين ألا وهو الصلاة فهم يأبون أن يصلوا جميعا وراء إمام واحد بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه وقد سمعنا ذلك ورأيناه كما رآه غيرنا
(راجع الفصل الثامن من كتاب ما لا يجوز فيه الخلاف ص 65 - 72 تجد أمثلة عديدة مما أشرنا إليه وقعت بعضها من بعض علماء الأزهر)

كيف لا وقد نصت كتب بعضض المذاهب المشهورة على الكراهة أو البطلان وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع يصلي فيهاا أئمة أربعة متعاقبين وتجد أناسا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي
بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعي ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية - وهو الملقب ب ( مفتي الثقلين ) - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية وعلل ذلك بقوله : ( تنزيلا لها منزلة أهل الكتاب ) (البحر الرائق) ومفهوم ذلك - ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم - أنه لا يجوزز العكس وهو تزوج الشافعي بالحنفية كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة
هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه بخلاف اختلاف السلف فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة ولذلك فهم منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين - بخلاف المتأخرين - هدانا الله جميعا إلى صراطه المستقيم

وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة إذن لهان الخطب بعض الشيء ولكنه - ويا للأسف - تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار فصدوهم بسبب اختلافهم عنن الدخول في دين الله أفواجا جاء في كتاب ( ظلام من الغرب للأستاذ الفاضل محمد الغزالي ص 200 ) ما نصه :
( حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة ( برينستون ) بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالا - كثيرا ما يثار في أوساط المستشرقين والمتهمين بالنواحي الإسلامية - قال :
( بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه أبتعاليم الإسلام كما يفهمهما السنيون أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية أو زيدية ثم إن كلا من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيرا تقدميا محدودا بينما يفكر آخرون تفكيرا قديما متزمتا

والخلاصة أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة لأنهم هم أنفسهم في حيرة )
وفي مقدمة رسالة ( هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ) للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى :
( إنه كان ورد علي سؤال من مسلمي بلاد جابان ( يعني اليابان ) من بلدة ( طوكيو ) و ( أوصاكا ) في الشرق الأقصىى حاصله :
ما حقيقة دين الإسلام ثم ما معنى المذهب وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة أي : أن يكون مالكيا أو حنفيا أو شافعيا أو غيرها أو لا يلزم لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم ونزاع وخيم حينما أراد عدة أنفار من متنوري الأفكار من رجال ( يابونيا ) أن يدخلوا في دين الإسلام ويتشرفوا بشرف الإيمان فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في ( طوكيو ) فقال جمع من أهل الهند : ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة لأنه سراج الأمة

وقال جمع من أهل إندونيسيا ( جاوا ) : يلزم أن يكون شافعيا فلما سمع الجابانيون كلامهم تعجبوا جدا وتحيروا فيما قصدوا وصارت مسألة المذاهب سدا في سبيل إسلامهم )

3 -
ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها ترك الأخذذ بأقوالهم مطلقا والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم
فأقول : إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب بل هو باطل ظاهر البطلان كما يبدو ذلك جليا من الكلمات السابقات فإنها كلها تدل على خلافه وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب دينا ونصبها مكان الكتاب والسنة بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع أو عند إرادة استنباط أحكام لحوادث طارئة كما يفعل متفقهة هذا الزمان وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية والنكاح والطلاق وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ والحق من الباطل وإنما على طريقة ( اختلافهم رحمة ) وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة - زعموا - وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى : ( إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله )
رواه ابن عبد البر ( 2 / 91 - 92 ) وقال عقبة : ( هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا )
فهذا الذي ننكره وهو وفق الإجماع كما ترى

وأما الرجوع إلى أقوالهم والاستفادة منها والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح فأمر لا ننكره بل نأمر به ونحض عليه لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة
قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( 2 / 172 ) :
( فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء - فجعله عونا له على اجتهاده ومفتاحا لطرائق النظر وتفسيرا لجمل السنن المحتملة للمعاني - ولم يقلدد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم منن حفظ السنن وتدبرها واقتدى بها في البحث والتفهم والنظر وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه صل الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي اللهه عنهم ومن أعف نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضالل مضل ومن جهل ذلك كله أيضا وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشد عمى وأضل سبيلا )
فهذا هو الحق ما به خفاء فدعني عن بنيات الطريق

4 -
ثم إن هناك وهما شائعا عند بعض المقلدين يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها وهوو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام ولما كان الطعن في فردد من أفراد المسلمين لا يجوز فكيف في إمام من أئمتهم

والجواب : أن هذا المعنى باطل وسببه الانصراف عن التفقه في السنة وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل ورسول الله صل الله عليه وسلم هو القائل :
( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد )
البخاري ومسلم
فهذا الحديث يرد ذلك المعنى ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل : ( أخطأ فلان ) معناه في الشرع : ( أثيب فلان أجرا واحدا ) فإذا كان مأجورا في رأي من خطأه فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين وليس في فرد عادي منهم بل في كبار أئمتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضا ويرد بعضهم على بعض
( انظر كلام الإمام المزني المتقدم آنفا ص 62 وكلام الحافظ ابن رجب المتقدم ص 54 )
أفيقول عاقل : إن بعضهم كان يطعن في بعض بل لقد صح أن رسول الله صل الله عليه وسلم خطأ أبا بكر رضي الله عنه  في تأويله رؤيا كان رآها رجل فقال صل الله عليه وسلم له : ( أصبت بعضا وأخطأت بعضا ) البخاري ومسلم فهل طعنن صل الله عليه وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة
ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبه لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام وأما اتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه وتعظيمه ولذلك فهم يصرون على تقليدهه فرارا من الطعن الموهوم
ولقد نسي هؤلاء - ولا أقول : تناسوا - أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فروا فإنه لو قال لهم قائل :: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع ومخالفته تدل على الطعن فيه فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صل الله عليه وسلم وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذاهب في خلاف السنة وهو معصوم والطعن فيه ليس كفرا فلئن كان عندكمم مخالفة الإمام تعتبر طعنا فيه فمخالفة الرسول صل الله عليه وسلم أظهر في كونها طعنا فيه بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه - لو قال لهم ذلك قائل لم يستطيعوا عليه جوابا اللهم إلا كلمة واحدة - طالما سمعناها من بعضهم - وهي قولهم : إنما تركنا السنة ثقة بإمام المذهب وأنه أعلم بالسنة منا
وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها وهو جواب فاصل بإذن الله فأقول :
ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة بل هناك عشرات - بل مئات - الأئمة هم أعلم أيضا منكم بالسنة فإذا جاءتت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم - وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة - فالأخذ بها - والحالة هذه - حتم لازمم عندكم لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا فإن مخالفكم سيقول لكم معارضا : إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذيي أخذ بها فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى
ولذلك فإني أستطيع أن أقول :
إن كتابنا هذا لما جمع السنن الثابتة عنه صل الله عليه وسلم في صفة صلاته فلا عذر لأحد في ترك العمل بها لأنه ليسس فيه ما اتفق العلماء على تركه - حاشاهم من ذلك - بل ما من مسألة وردت فيه إلا وقد قال بها طائفة منهم ومن لم  يقل
بها فهو معذور ومأجور أجرا واحدا لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقا أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء وأما من ثبت النص عنده من بعده فلا عذر له في تقليده بل الواجب اتباع النص المعصوم وذلك هو المقصود من هذه المقدمة والله عز وجل يقول :
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون
[ الأنفال 24 ]
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو نعم المولى ونعم النصير وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين

دمشق 20 / 5 / 1381 هجرية
محمد ناصر الدين الألباني

ليست هناك تعليقات