كتاب هل تبحث عن وظيفة ؟ للشيخ محمد العريفى الوصية الرابعة


الوصية الرابعة

ذكر ابن كثير في تاريخه أن رجلاً من ضعفاء الناس كان له على أحد الأمراء مال كثير فماطله ومنعه حقه وكلما طالبه به آذاه وأمر غلمانه بضربه فاشتكاه إلى قائد الجند فما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً

قال هذا الرجل المسكين :
فلما رأيت ذلك يئست من المال الذي عليه ودخلني غم من جهت فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي
إذا قال لي رجل : ألا تأتي فلاناً الخياط أمام المسج
فقلت : ما عسى أن يصنع خياط من هذا الظالم ؟ وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه
فقال : الخياط هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه
فاذهب لعلك أن تجد عنده فرجاً
قال : فقصدته غير محتفلاً في أمره فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم
فقام وأقفل دكانه ومضى يمشي بجانبي حتى وصل إلى بيت الرجل
وطرقنا الباب ففتح الرجل الباب مغضباً فلما رأى الخياط فزع وأكرمه واحترمه
فقال له الخياط : أعط هذا الضعيف حقه
فأنكر الرجل وقال : ليس له عندي شيء
فصاح به الخياط وقال : ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنتْ !!
فتغير لون الرجل ودفع إلي حقي كاملاً
ثم انصرفنا
وأنا في أشد العجب من هذا الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف انقاد ذلك الكبير له
ثم إني عرضت عليه شيئاً من المال فلم يقبل
وقال : لو أردت هذا لكان لي من المال شيء لا يحصى
فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه
فلم يلتفت إليّ
فألححت عليه
وقلت : لماذا هددته بأن تؤذن ؟!
قال : قد أخذت مالك فاذهب
قلت : لابد والله أن تخبرني
فقال : إن سبب ذلك أنه كان عندنا قبل سنين في جوارنا تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن جميل فمرت به ذات ليلة امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة
فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها وتقول : أنا امرأة متزوجة وهذا رجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله ومتى بت ها هنا طلقت منه ولحقني عار ومذلة لا تغسلها الأيام
قال الخياط : فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من بين يديه فضربني بسكين في يده فشج رأسي وأسال دمي
وغلب المرأة على نفسها فأدخلها منزله قهراً
فرجعت فغسلت الدم عني وعصبت رأسي وصحت بالناس و قلت
إن هذا فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه
فقام الناس معي فهجمنا عليه في داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيدهم العصي والسكاكين يضربون الناس وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة والذل
فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء فنمت على فراشي فلم يأخذني النوم وتحيرت ماذا أصنع حتى انقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع عليها من زوجها الطلاق فألهمت أن أؤذن للصبح أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها

فصعدت المنارة وبدأت أؤذن وأرفع صوتي
وجعلت أنظر إلى باب داره هل أرى المرأة خرجت ثم أكملت الأذان فلم تخرج ثم عزمت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الخبيث أن الصباح قد خرج
فبينما أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا إذ امتلأت الطريق فرساناً ورجالاً
وهم يقولون : أين الذي أذن هذه الساعة ؟ وينظرون إلى منارة المسجد
فصحت بهم : أنا الذي أذنت وأنا أريد أن يعينوني عليه
فقالوا : انزل ! فنزلت
فقالوا : أجب الخليفة ففزعت وسألتهم بالله أن يسمعوا القصة فأبوا وساقوني أمامهم وأنا لا أملك من نفسي شيئاً حتى أدخلوني على الخليفة
فلما رأيته جالساً في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعاً شديداً
فقال : ادن فدنوت
فقال لي:  ليسكن روعك وليهدأ قلبك وما زال يلاطفني حتى اطمأنت نفسي وذهب خوفي
فقال لي : أنت الذي أذنت هذه الساعة ؟
فقلت : نعم يا أمير المؤمنين
فقال : ما حملك على أن أذنت في هذه الساعة ؟ وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه ؟ فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وتفسد على النساء صلاتهن
فقلت : يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟
فقال : أنت آمن فذكرت له القصة
فغضب غضباً شديدا
وأمر بإحضار ذلك الرجل والمرأة فأحضرا سريعاً
فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات
ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له : كم لك من الرزق ؟ وكم عندك من المال ؟ وكم عندك من الجواري والزوجات ؟ فذكر له شيئاً كثيراً فقال له : ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت على حدوده وتجرأت على السلطان ؟! وما كفاك ذلك حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته؟!
فلم يكن له جواب

فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل ثم أمر به فأدخل في كيس وهذا الرجل يصيح ويستغيث ويعلن التوبة والإنابة
والخليفة لا يلتفت إليه
ثم أمر الخليفة به فضرب بالسكاكين ضرباً شديداً حتى خمد
ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد
ثم أمر الخليفة صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الأموال التي كان يتناولها من بيت المال
ثم قال لي : كلما رأيت منكراً صغيراً أو كبيراً ولو على هذا – وأشار إلى صاحب الشرطة – فأعلمني فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلامة ما بيني وبينك الأذان فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا
فقلت : جزاك الله خيراً ثم خرجت
فلهذا : لا آمر أحد من هؤلاء بشيء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من الخليفة المعتضد وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن والحمد لله

أيها الأخ الحبيب والأخت الكريمة
إن المشتاقين إلى الجنة والراغبين في دخولها لا يسكتون عن منكر رأوه
بل يسلكون شتى الطرق ومختلف الأساليب لإزالة المنكرات ومناصحة أهلها

فأين أولئك الذين يرون المنكرات ولا تنشط نفوسهم لإنكارها وربما أنكروا مرة أو مرتين فلما لم يتقبل منهم يئسوا من الإصلاح وألقوا السلاح وليسألن يوم القيامة عن ذلك

وما كثرت المنكرات بين الناس في أسواقهم وبيوتهم ومدارسهم وأماكن أعمالهم إلا بسبب أنهم
﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.. ﴾

وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم
{ لا يحقر أحدكم نفسه
قالوا : يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟!
قال : يرى أمراً لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟
فيقول خشية الناس
فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى }

واعلم أن قوله صل الله عليه وسلم
{ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان }
يشمل كل مسلم ومسلمة
وأنت من المسلمين بل إن الساكت عن إنكار المنكر يخشى عليه أن يكون شريكاً لفاعله في الإثم
قال صل الله عليه وسلم
{ إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة : أنكرها – كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها }

ليست هناك تعليقات