مهنة الطبيب في الإسلام الجزء الأول
نص فقهاء الإسلام وأئمته الأعلام في كتبهم على حكم فرضية تعلُّم الطب على الكفاية بل لم يقف الأمر عند ذلك وإنما تعدَّاه إلى حَثِّ الهمم وتشجيعهم الناس لتعلُّمه
قال الإمام الشافعي :
"لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب"
وقال أيضا :
"صنفان لا غنى للناس عنهما : العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم"
فتعلم الطب من فروض الكفاية
ويقصد بفرض الكفاية : الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإن لم يَقُم به من يكفي أثم الناس كلهم
قال الإمام النووي :
"وأما العلوم العقلية فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج إليه وقسمة الوصايا والمواريث
قال الغزالي :
ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية فإن الحرف والصناعات التي لابد للناس منها في معايشهم كالفلاحة فرض كفاية فالطب والحساب أولى"
[روضة الطالبين : 10/ 223]
(حكم التداوي)
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع ودليل مشروعيته أنه وردت فيه عن النبي صل الله عليه وسلم من قوله وفعله ما يدل على ذلك ومنها : حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال : شهدت الأعراب يسألون النبي صل الله عليه وسلم :
هل علينا جناح أن لا نتداوى؟
قال : تداووا عباد الله فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم
[رواه ابن ماجه 3436 و صححه الألباني]
كما أن في التداوي حفظ للنفس التي هي أحدى المقاصد الكلية التي جاء الشرع بالمحافظة عليها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
"فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟
والتحقيق : أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب وهو : ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره كما يجب أكل الميتة عند الضرورة فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء
وقد قال مسروق :
من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار
فقد يحصل أحياناً للإنسان إذا استحر المرض ما إن لم يتعالج معه مات والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف وكاستخراج الدم أحياناً"
[مجموع الفتاوى : 18/ 12]
فأحكام التداوي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص :
فيكون واجبًا على الشخص : إذا كان تركه يُفضي إلى تلفِ نفسه أو أحدِ أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كالأمراض المعدِيَة
ويكون مندوبًا : إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى
ويكون مباحًا : إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين
ويكون مكروهًا : إذا كان بفعل يُخاف منه حدوثُ مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها
[مجمع الفقه الإسلامي الدولي : 5/7 ، قرار 67]
(حكم التخدير)
التخدير في الأصل حرامٌ شرعًا لأنه يعطل العقل الذي يُعَدُّ أعظم نعم الله على الإنسان وهو مناط التكليف فيجب حمايته من كل ما يكون سببًا في زواله وإفساده مع الأضرار الأخرى للمخدِّر قياسًا على الخمر ولكنه يجوز للتداوي للضرورة
والحاجة إلى التخدير في الجراحة الطبية لا تخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى :
أن تصل إلى مقام الضرورة :
وهي الحالة التي يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير كما في جراحة القلب المفتوح ونحوها من أنواع الجراحة الخطيرة والتي إذا لم يخَدَّر فيها المريض فإنه سيموت في أثناء الجراحة أو بعدها بقليل
الحالة الثانية :
أن تصل إلى مقام الحاجة :
وهي الحالة التي لا يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير ولكن المريض يَلقَى فيها مشقة فادحة لا تصل به إلى درجة الموت والهلاك وهي الحالة المتوسطة ومن أمثلتها جراحة بتر الأعضاء
الحالة الثالثة :
وهي التي لا تصل إلى مقام الضرورة والحاجة :
حيث يمكن فيها إجراء الجراحة الطبية دون أن يخدَّر الشخص المريض ويَلقَى فيها بعض الآلام التي يمكنه الصبر عليها دون أن تلحق به مشقة فادحة في الغالب
وتقدير ذلك وضبطه أمر يرجع إلى الطبيب نفسه فهو الذي يمكنه تطبيق هذه الحالات على أنواع الجراحة لاختلاف المرضى ونوعية الجراحة اللازمة لهم
وإذا تبين وجود الحاجة الداعية إلى التخدير الجراحي فإنه يمكن القول بجواز فعله سدًّا لتلك الحاجة فما كان منها بالغًا مبلغ الاضطرار يعتبر جوازه بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول :
"الضرورات تبيح المحظورات"
وما كان منها بالغًا مبلغ الحاجة يعتبر جوازه بناءً على القاعدة الشرعية التي تقول :
"الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة"
وما كان منها دون مقام الحاجة يُرَخَّص في اليسير من المخَدِّر
ومن خلال ما تقدم يتبين :
أن التخدير الجراحي يعتبر مستثنًى من الأصل الموجب لحرمة المواد المخدِّرة الموجودة فيه وأن هذا الاستثناء مبني على وجود الحاجة الداعية إلى التخدير.
وقد ذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى جواز استعمال التخدير في العمليات الجراحية، وبه صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية فقد سُئِلَت عن حُكم التخدير أثناء العمليات الجراحية؟
فأجابت اللجنة : "يجوز استعمال ذلك لما يقتضيه من المصلحة الراجحة إذا كان الغالب على المريض السلامة من ذلك"
[فتاوى اللجنة الدائمة : فتوى/3685]
ليست هناك تعليقات