كتاب قواعد قرآنية للدكتور عمر بن عبدالله المقبل - القاعدة السادسة
هذه قاعدة من قواعد بناء المجتمع وإصلاحه وتدارك أي سبب لتفككه وقد وردت هذه القاعدة في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال قد تؤدي إلى الاختلاف والتفرق وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما
يقول سبحانه :
﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
[النساء : ١٢٨]
ويمكننا القول : إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة
ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى :
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾
[النساء : ٣٥]
يقول ابن عطية -مؤكدًا اطّراد هذه القاعدة- :
«وقوله تعالى :
﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
لفظٌ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي -الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف- خيرٌ على الإطلاق ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة»
ومعنى الآية باختصار :
أنه «إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي : تَرفُّعه عنها وعدمَ رغبتِه فيها وإعراضه عنها فالأحسن -في هذه الحالة- أن يصلحا بينهما صلحًا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها :
إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن أو القسم بأن تُسقط حقها منه أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها
فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها
لا عليها ولا على الزوج فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال وهي خير من الفرقة ولهذا قال :
﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى :
أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة -في جميع الأشياء- أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح
وهو -أي الصلح- جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حرامًا أو حرم حلالًا فإنه لا يكون صلحًا وإنما يكون جورًا
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه
وذكر المانع بقوله :
﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾
[النساء : ١٢٨]
أي : جبلت النفوس على الشح : وهو عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان والحرص على الحق الذي له فالنفوس مجبولة على ذلك طبعًا
أي : فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلق الدنيء من نفوسكم وتستبدلوا به ضده وهو السماحة :
بذل الحق الذي عليك والاقتناع ببعض الحق الذي لك
فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومُعامله وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ولا يرضى أن يؤدي ما عليه فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر»
ومن تأمل القرآن وجد سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق فبالإضافة إلى ما سبق ذِكره -من الإصلاح بين الأزواج- فإننا نجد في القرآن حثًا على الإصلاح بين الفئتين المقتتلتين ونجده يثني ثناء ظاهرًا على الساعِين في الإصلاح بين الناس :
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
[النساء : ١١٤]
بل تأمل في افتتاح سورة الأنفال فإنك واجدٌ عجبًا فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله :
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
[الأنفال : ١]
فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين وطاعةِ الله ورسوله لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل :
لبيان أن التقاتل على الدنيا -ومنها الأنفال (وهي الغنائم)- سببٌ في فسادِ ذات البين ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال
ولأهمية هذا الموضوع -أعني الإصلاح- : أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس
إذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه الآية الكريمة :
﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
فمن المهم -لنستفيد من هذه القاعدة القرآنية- أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا ﷺ الذي طبق هذه القاعدة في حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحًا وإصلاحا!
المصلحون أصابعٌ جُمِعت يدًا
هي أنتَ بل أنت اليدُ البيضاءُ
- ومن أمثلة ذلك :
أنه ﷺ حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة -رضي الله عنها- ووقع في نفسه أن يفارقها فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة فقبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك
- طبق النبي ﷺ هذه القاعدة في قصة بريرة -وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة- فكرهتْ أن تبقى مع زوجها الذي كان شديد التعلق بها حتى قال ابن عباس -وهو يصف حب مغيث لبريرة-: لكأني به في طرق المدينة ونواحيها وإن دموعه لتسيل على لحيته يترضاها لتختاره فلم تفعل!
فقال النبي ﷺ: «لو راجعتِه»!
قالت : يا رسول الله تأمرني؟
قال : «إنما أنا أشفع»
قالت : لا حاجة لي فيه
فانظر كيف حاول ﷺ أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل فلم يشأ أن يجبر لأن من أركان الحياة الزوجية الحب والرغبة!
- خرج مرة ﷺ إلى أهل قباء لما أُخْبِرَ أنهم اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة
فقال : «اذهبوا بنا نصلح بينهم»
وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم ممن سار على نهجهم ومن ذلك :
- خروج ابن عباس -رضي الله عنهما- لمناظرة الخوارج -الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه- فرجع منهم عدد كبير
ومن قلّب كتب السِّيَر وجد نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى ولعل مما يبشر بخيرٍ :
ما نراه من لجان إصلاح ذات البين والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة :
﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
فهنيئًا لمن جعله الله من خيار الناس الساعين في الإصلاح بينهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
ليست هناك تعليقات